الشيخ و”الجغرافيا المحكية”.. جغرافيتنا الصحيحة وجغرافيتهم المزوّرة الكاذبة
الإعلامي أحمد حازم
ذكرتُ في مقال سابق، أنني أتابع أسبوعيًا باهتمام مقالات فضيلة الشيخ رائد صلاح- أطال الله بعمره. وقد لفت نظري عنوان مقاله الأخير الجمعة الماضية “الجغرافيا المحكية”، حيث يؤكد فضيلته بكل تواضع أنَّ صاحب فكرة الجغرافيا المحكية ليس هو، بل المرحوم د. كمال الفحماوي الذي كان محاضرا في علم الجغرافيا في جامعة بير-الزيت. هكذا يكون التواضع والمصداقية في الكتابة. تحدّث شيخنا الفاضل في مقاله عن “الحواكير” وأسمائها، وعن “الطابون” ورائحة خبزه وبالتحديد “طابون ستي شريفة” وعن بيادر الصّبّار وأكواز صبرها الشهية وبيادر القمح حتى أنه لم ينس الحديث عن “غنمات أبوعلي”. تحدث الشيخ عن كل شيء تحتفظ به ذاكرته أيام طفولته في بلدته أم الفحم، حيث عاش هذه الطفولة في بيت كان وحيدًا في حاكورة من حواكير أم الفحم.
كل الأسماء والأماكن وغيرها ممّا ورد في مقال الشيخ يقول عنها إنها “الجغرافيا المحكية”. ويقدم الشيخ سرده لما تحمله ذاكرته أيام طفولته بأسلوب شيق يصعب على القارئ تركه بدون متابعته للنهاية. لقد أراد شيخ الأقصى أن يوصلنا إلى هدف معين من وراء الجغرافيا المحكية التي تحدث عنها حيث تحمل هذه الجغرافيا: “كنزًا من الدلالات التي تؤكد لكل أهل الدنيا، أنَّ لهذه الأرض نحن ونحن أهلها، ونحن ملحها وأنفاسها ولغتها، وأن لهذه الأرض نحن ونحن جذورها وعنوانها وتاريخها وحاضرها ومستقبلها، وما كنّا يوما من الأيام عابري سبيل في أرضنا المباركة”. وهل يوجد بعد أروع من هذا التعبير عن التعلق بالأرض؟
هم فضيلة الشيخ، مغتصبون محتلون مارقون، ونحن أهل الأرض المباركة باقون عليها وفيها، ولن يفيدهم تغيير الأسماء، لأنَّ جغرافيتنا هي الصحيحة الصادقة وجغرافيتهم هي الكاذبة. نحن نحمل اسمًا واحدًا ونجاهر به بفخر واعتزاز. نحن “فلسطينيون” نسبة إلى فلسطين الموجودة في التاريخ وهم أرادوا تغيير التاريخ غيروا اسم دولة فلسطين بعد احتلالها وتشريد معظم أهلها وأسكنوا فيها يهودًا “لملموهم” من بقاع الأرض وأعطوهم اسم “دولة إسرائيل”.
قالوا لنا إننا أصبحنا “عرب إسرائيل” في أرضنا في محاولة لتجريدنا من فلسطينيتنا، لأن كلمة فلسطين تخيفهم وترعبهم. أرادوا محو اسم فلسطين من ذاكرة الأجيال الفلسطينية اللاحقة. ولم تنجح نظرية رئيسة حكومة اسرائيل السابقة غولدا مئير “الكبار يموتون والصغار ينسون”. صحيح أنَّ الكبار انتقلوا لجوار ربهم، لكن فلسطين بقيت تنمو وتكبر في عقول الأجيال المتلاحقة، لأن كل بيت فلسطيني كان مدرسة للجغرافيا الفلسطينية وللتاريخ الفلسطيني وكان الأولاد يحفظون عن ظهر قلب ما يسمعونه في البيت الفلسطيني عن فلسطين.
يتمنى الشيخ في مقاله لو يتم رسم خارطة توثق الجغرافيا المحكية بشاردها وواردها التي كانت عليها هذه القرية المهجرة أو تلك، ولماذا يريد شيخ الأقصى ذاك: لأن هذه الخرائط المفصّلة تحفظ لنا ولأجيالنا القادمة الجغرافية المحكية. الأمر الأهم من وراء توثيق الجغرافيا المحكية كما يراه الشيخ: “لو قمنا بذلك لأسدينا لأنفسنا ولكل أنصار العدالة في العالم خدمة لا تُثمّن، فيكفي أن نحافظ بواسطة هذا العمل على الشاهد حيا، الذي يشهد بلا تلعثم أنَّ أرضنا ما كانت مشاعا في يوم من الأيام، وأننا نحن أهلها كنّا ولا زلنا أحياء”. ما أجمل هذه الصياغة شيخنا الفاضل.
وأخيرًا.. المحلل السياسي كوبي ريختر يتوقع في صحيفة “يديعوت أحرونوت”، تفكيك دولة قانون القومية في العقد الثامن من تأسيسها. وقال في مقاله: “تفككت المملكة الإسرائيلية اليهودية مرتين في العقد الثامن من عمرها”. وتساءل الكاتب عمَّا إذا كان التاريخ يعيد نفسه في إشارة واضحة الى تفكيك محتمل لإسرائيل. لا يوجد مستحيل في السياسة وكل شيء جائز، والاتحاد السوفييتي خير مثال على ذلك. لننتظر.