أبشر ثم أبشر
ليلى غليون
قال أبو إدريس الخولاني لمعاذ: إني أحبك في الله، قال: أبشر ثم أبشر، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ينصب لطائفة من الناس كراسي حول العرش يوم القيامة، وجوههم كالقمر ليلة البدر، يفزع الناس وهم لا يفزعون ويخاف الناس وهم لا يخافون وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فقيل من هم يا رسول الله؟ قال: هم المتحابون في الله تعالى).
فليس أعظم ولا أجمل من أن يكون لك أخ في الله تآلف قلباكما في الله ولله، دخل قلبك ودخلت قلبه بلا مصلحة تجمعكما، فرش لك في غرفات قلبه ودروبه من الزهور أشكالًا وألوانًا، تحتار من أيها تقطف، ومن أي عبيرها تتنسم، أخ صادق صدوق ضاقت عليك الدنيا إلا من مساحات قلبه، وقد خصص لك نصيبًا وافرًا من مساحات ذهنه ووجدانه، يفتقدك إن غبت، ويسأل عنك إن خالجه مجرد أدنى شك بأنك ربما مهموم، ربما حزين، أو ربما عارض من عوارض الدنيا أو مكروه قد أصابك، لينتفض كما العصفور الجريح، يسارع الخطى بسرعة خفقات قلبه المتلاحقة ليطمئن عليك ولتهدأ أنفاسه الثائرة التي أعياها اللهاث والتعب قلقًا وخوفًا عليك.
عن علقمة العطاردي، أنه قال في وصيته لابن له لما حضرته الوفاة: “يا بني إن عرضت لك إلى صحبة الرجال حاجة، فاصحب من إذا خدمته صانك، وإن صحبته زانك، وإن قعدت بك مؤونة مانك. اصحب من إذا مددت يدك بخير مدها، وإن رأى منك حسنة عدها، وإن رأى منك سيئة سدها. اصحب من إذا سألته أعطاك، وإن سكتّ عنه ابتداك، وإن نزلت بك نازلة واساك. اصحب من إذا قلت صدّق قولك، وإن حاولتما أمرًا أمّرك، وإن تنازعتما في شيء آثرك. اصحب من يكتم سرك، ويستر عيبك، ويكون معك في النوائب، ويؤثرك في الرغائب، وينشر حسناتك، ويطوي سيئاتك. فإن لم تجده يا بني، فلا تصحب إلا نفسك”.
قال القاضي ابن أكثم: لما سمع المأمون هذا الكلام قال لناقله: “يا رجل أعطني هذا الصاحب، وخذ مني الخلافة!! ولكن أين هو؟!
نعم، فلا أعظم ولا أجمل من أن يكون لك أخ في الله تسمع تغريدة صوته كل صباح يصبح عليك بالخير والسلام وذكر الله، فيملأ قلبك بالبشرى والأمل والتفاؤل ويشعرك أن الدنيا لا تزال بخير لأن فيها أمثاله.
اجتمع عند أبي الحسن الأنطاكي أكثر من ثلاثين رجلًا، ومعهم أرغفة قليلة لا تكفيهم، فقطعوا الأرغفة قطعًا صغيرة وأطفأوا المصباح، وجلسوا للأكل، فلما رفعت السفرة، فإذا الأرغفة كما هي لم ينقص منها شيء؛ لأن كل واحد منهم آثر أخاه بالطعام وفضله على نفسه، فلم يأكلوا جميعًا.
فلا أعظم ولا أجمل من أن يكون لك أخ بكل معاني الأخوة الراقية السامية، يراك وتراه ويسمعك وتسمعه عبر المسافات ولو بعدت، وإذا التقيت به تبسم في وجهك فتمحو ابتسامته ما علق في نفسك من غبار الهموم، وعندما تعود أدراجك فليس معك سوى صورة خلابة لتلك الابتسامة، أخ يجيد استقبالك واستقبال أفراحك وأحزانك في محطات قلبه، يستمع إليك أن ثرثرت بهدوء كما يستمع إليك عند ثوران كلماتك.
أخ هو مأمن سرك وحافظ عهدك ،ومفتاح قلبك، وسند ظهرك، يثور كما الأسد الهصور دفاعًا وغضبًا لو سمع من أحدهم كلمة سوء عنك في غيابك، لأنه ببساطة يسوؤه ما يسوؤك، ولكن أين هو؟!
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “قال الله تعالى في الحديث القدسي: حقت محبتي للمتحابين في، وحقت محبتي للمتواصلين في، وحقت محبتي للمتناصحين في، وحقت محبتي للمتزاورين في، وحقت محبتي للمتباذلين في، المتحابون فيّ على منابر من نور يغبطهم بمكانهم النبيون والصديقون والشهداء”. وقال صلى الله عليه وسلم: “إن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي، اليوم أظلهم في ظلي، يوم لا ظل إلا ظلي”.
فكم هي الحاجة ماسة في هذا الزمن الصعب الذي تكاد تتلاشى فيه المعاني الراقية والقيم الجميلة والتي أصبحت كالعملة النادرة، كم هي الحاجة إلى أن يستشعر الفرد منا أن له إخوة في الله يحبهم ويحبونه من غير مصلحة بينهم، يؤازرهم ويؤازرونه، خاصة إذا اشتدت عليه الأحوال وتفاقمت المشاكل وأنهكته الهموم واستنزفت قواه الأزمات، لتضيق عليه الأرض بما رحبت، ليجد إخوة له في الله هم خشبة السلامة يتعلق بها لتقلّه إلى مرفأ الأمن والأمان، فترتفع روحه المعنوية، ويُمَد بطاقة ترفع قدراته الذاتية، وتجعله أقوى مضاء وعزيمة.
فما أكثر هموم الدنيا ومنغصاتها ولولا ذكر الله ومحبة الاخوان وخالص دعائهم بالغيب والناس نيام، قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى : لولا صحبة الأخيار ومناجاة الحق تعالى بالأسحار، ما أحببت البقاء في هذه الدار.