مدرسة تحت الركام
ليلى غليون
كارثة لا نزال نشهد أحداثها وأهوالها وفظاعتها، هزت مشاعرنا، ووجداننا، وأحاسيسنا التي تصدعت من هول الحدث فانهارت تحت ركام قسوة مشاهد الموت والدمار الذي حلَّ بإخوة لنا في الجنوب التركي والشمال السوري.
مشاهد صادمة بالبث الحي والمباشر، زلزلت القلوب والضمائر وفجرت المدامع، مناظر لهولها أزاحت الأبصار عنها، فمن ذا الذي يقدر ويتحمل رؤيتها والنظر إليها، ولكنهم هناك، إخوة لنا شهدوها وعاشوها حقًا وحقيقة، شهدوها رعبًا وموتًا وردمًا فوق أجسادهم، مشاهد تحبس الأنفاس، لتتمنى من قحف قلبك لو أن عينيك تخدعانك، أو لو أنك تشاهد لقطات من فيلم رعب، صور تتحدث عن حالها بلسان حالها، لم تكن بحاجة لمن يتحدث عنها، لم تكن بحاجة لفن تصويري، ولا لكاتب سيناريو ولا لمخرج محترف ليقوم بإخراجها على هذا النحو.
لحظات تشعر الزمن فيها قد توقف، أو قل هي لحظات سباق مع الزمن، يتسابق معه وفيه أصحاب الهمم لعل الله عز وجل يقدر نجاة أحدهم على أيديهم يحدوهم حادي الإيمان: (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا).
لحظات أسمى أمانيهم أن يسمعوا أنينًا أو صوت استغاثة تحت الأنقاض يشعل في قلوبهم ومضة أمل أن صاحب هذا الأنين أو الاستغاثة لا يزال يتنفس، فإذا كان سماع الأنين في الظروف العادية ينبت في القلب الألم والشفقة على صاحب الأنين، ولكنه وفي هذه الظروف الاستثنائية يبث في القلب الفرحة، أن بين مخالب الموت وتحت الدمار، هناك من لا يزال يصارع ويقاوم للعودة للحياة من جديد، لتعلو التكبيرات وتجلجل حمدًا لله على نجاته.
فإذا كانت أعيننا ومشاعرنا لم تستطع تحمل مجرد النظر لتلك الصور والمشاهد، فكيف بمن هم أبطال الحدث؟ كيف بمن تذوقوا طعم الهلع وتجرعوا كأس الرعب؟ كيف بمن انفجرت الأرض غضبى تحت بيوتهم فمادت وتصدعت وابتلعتهم تحت ركامها فظنوا أنها النهاية، فكانت فعلًا لمعظمهم هي النهاية ليسدل الستار معلنًا تلك النهاية، طموحهم، أهدافهم، آمالهم، أحلامهم، كل شيء..
ولكن، ومع هول الكارثة التي ألمَّت بإخوتنا، ومع شدة الهزات الارتدادية التي تصدعت لهولها الضمائر الحية والمشاعر الإنسانية، إلا أنها مدرسة وإن كانت تحت الركام، وإنهم أساتذة تخرجوا من عمق المأساة يلقنوننا أعظم الدروس في الصبر والصمود الذي لا يقدر عليه إلا الذي هيأه الله لأمر جلل.
لله دركم يا إخوتي وكيف لا تكونون مدرسة بل جامعة دونها كل جامعات الأرض ومدارسها، وهذا رجل وقد عانقت دموعه ابتسامته، فما أصعب أن يبكي الرجال، يحتضن صغيره الناجي الوحيد من كل عائلته، وقد فقد بيته وأولاده وزوجته ولم يعد له من هذه الدنيا سوى هذا الصغير، ولكن لسانه لا يفتر عن حمد الله الذي منّ عليه وأبقى له ولدًا، ليعود بي هذا الموقف الجلل إلى ذاك الزمن الجميل مستعرضًا حادثة لمن كان صبره على البلاء يفوق كل تصور، إنه عروة بن الزبير يوم أصيبت رجله بالأكلة وأجمع أطباء زمانه أنه لا بد من بترها قبل أن يسري المرض في كل جسده، فبُترت رجله، ثم مات أحد أبنائه الأربعة، وعندما جاء إليه المعزون قال: “اللهم إنه كان لي أطراف أربعة فأخذت واحدًا وأبقيت ثلاثة فلك الحمد، وكان لي بنون أربعة فأخذت واحدًا وأبقيت لي ثلاثًة فلك الحمد، وأيم والله، لئن أخذت فقد أبقيت ولئن أبليت طالما عافيت”.
وذاك آخر لا تسمع منه إلا كلمات الحمد وابتسامته تشق غبار الركام الذي يكسو وجهه وقد أُخرج لتوه هو وأبناؤه وزوجه من تحت ركام بيته سالمين، لتشرق تلك الابتسامة على ملامحه متحدية الغبار وكأنه حاز على الدنيا وما فيها ليقول: الحمد لله كلنا عايشين، أنا فقط أصبت بكسر في ظهري، وأحد أبنائي كسر بيديه الاثنتين والآخر كذا، وزوجتي، وأخذ يعدد ما أصاب عائلته من أذى. أي صبر وأي احتساب، فمع كل أكوام الألم التي فاقت أكوام الدمار لا تسمعه إلا يقول: ألف الحمد لله بابتسامة أشرقت بالرضا.
لله دركم أيها الأساتذة ولا زلتم تلقنوننا أعظم الدروس، فهذه المرأة الرابضة تحت الأنقاض، والله وحده العالم بحجم المعاناة التي تعيشها، ومن المفترض ومن الطبيعي في هذه اللحظات، أن لا يشغلها شاغل إلا كيف تنجو بنفسها، ولكن عندما وصلتها فرق الإنقاذ رفضت الخروج من حفرتها بل من محنتها قبل أن يعطوها حجابًا تستر نفسها. أيتها الكبيرة، أيتها العظيمة في زمن تهاونت الكثيرات بالحجاب وألقينه وراء الظهور.
لله دركم أيها الأساتذة، أيها التيجان فوق الرؤوس، وأي كلمات، بل كل لغات الأرض مجتمعة تقف عاجزة مشلولة عن وصف قوة ثباتكم، فهذا الشيخ العجوز الذي أطبقت على أضلعه أكوام الردم، يسأل المنقذين عن ماء للوضوء وهو معذور ولكنه يصر على ذلك، فماذا تقولون أيها المفرطون في جنب الله؟!
أما أنت يا طفلتي الصغيرة بل يا أستاذتي الكبيرة، سامحيني وقد أعدت شريط كلامك مرات ومرات لأني بداية لم أستوعب كلامك رغم أنه كان واضحًا للمسامع وأنت تئنين وتقولين الذي تقولين، نعم أعدت الاستماع لكلامك عدة مرات لعلمي بداية إني قد أخطأت السمع، وإذ بي لم أخطئ، وإذ بكلماتك كالصاروخ تخترق أذني وأنت ترددين: “يوم كامل ما صليت”! لقد نقلتني كلماتك مجددًا يا أستاذتي إلى ذاك الزمن الجميل، ليعيد لذهني موقف طفل مثلك، عفوًا أستاذ مثلك، وذلك يوم قام سلطان العارفين أبو زيد البسطامي يتهجد من الليل، فرأى طفله الصغير بجواره، فأشفق عليه وقال له: ارقد يا بني أمامك ليل طويل. فقال الولد: ولماذا أنت قمت؟ قال: قد طلب مني أن أقوم له. فقال الغلام: لا تحرمني من شرف صحبتك في طاعة الله. قال الأب: يا بني أنت طفل ولم تبلغ الحلم. فقال الغلام: يا أبتي إني أرى أمي وهي توقد النار تبدأ بصغار قطع الحطب لتشعل كبارها، فأخشى أن يبدأ الله بنا يوم القيامة قبل الرجال إن أهملنا طاعته، فانتفض أبوه وقال: قم يا بني فأنت أولى بالله من أبيك.
ولا زلنا هناك تحت الدمار حيث تمت الولادة، لتخرج “آية” من رحم والدتها، ومن رحم الركام الذي أجهز على والدتها، لتكون عبرة وأية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، خرجت من رحم الأهوال بضعفها وقلة حيلتها والموت أقرب إليها من حبل السرة الذي يربطها بوالدتها المسجى جسدها تحت الردم، خرجت تتنفس الحياة لتزيد اليقين يقينًا والإيمان إيمانًا، أن المولى سبحانه هو صاحب الأمر كله، مخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ومقدر الأشياء كلها، وأن ما يصيب الإنسان لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأنه لا ينجو أحد من مهلكة بمهارته ولا بقوته وتوقيه، بل برحمته جل جلاله.
وأخيرًا أيها الأساتذة، ونخصكم يا أهل الشام، ونحسبكم وقد اصطفاكم رب العزة لتلقنوا الأمة أبلغ الدروس في الثبات والصبر والإيمان، وتكفيكم شهادة الحبيب صلى الله عليه وسلم لما قال: “ألا وإن الإيمان حين تقع الفتن بالشام”.
اللهم احفظ إخواننا في سوريا وتركيا وسائر بلاد المسلمين من كل مكروه وبلاء وفرج كربهم وارحم موتاهم واشف جرحاهم واربط على قلوبهم.