عاشق البيارة (3)
عبد القادر سطل- يافا
توجد أمور في حياتنا نعيشها ونعايشها وليس لنا سيطرة عليها، مثل: متى نوَلد أو متى وأين نموت، فهذا في علم الله سبحانه وتعالى، وليس بأيدينا أن نختار المكان والزمان الذي نعيش فيه، فيكون الحيزَ الأول أرحام أمهاتنا حيث نقضي بحب وسعادة ورغد أول مراحل حياتنا بعد أن نكتمل وتبعث فينا الروح. ثمَّ الحيَز الثاني وهو المكان الذي نولد فيه، تلك الأرض التي ستبدل لاحقًا حبل الوريد. فماذا لو كان باستطاعتنا أن نختار المكان والزمان الذي نولد ونعيش فيه- لا اعتراض على حكم الله طبعَا فهو يختار لنا دائمًا الأفضل، وقد أنعم الله عليّ أن أولد في مستشفى الدجاني بمدينة يافا عروس فلسطين وبوابة الأراضي المقدسة. مدينة، هام في حبها كل من التقى بها أو حتى سمع عنها من خلال قصص من زاروها، أو عاشوا فيها قبل وبعد الاحتلال عام 1948. نعم لقد اجتمع في المكان الخضرة والمياه والوجه الحسن كما يقول المثل الشائع.
في نظري نكبة شعبنا الفلسطيني لم تبدأ عام 1948 ولم تنته في ذلك العام، بل كانت مجرد مرحلة من مراحل النكبة التي يعيشها شعبنا حتى يومنا هذا، ونحن نعيش مشهد القدس وأريحا وجنين وغزة المحاصرة.
ليس لي اعتراض على المكان، ولو خيرت مرة أخرى لكانت يافا في أعلى سلم الأولويات، لأنني أعشق بحرها وسماءها وبياراتها التي تعتبر بالنسبة لي مرتع الطفولة. وأكشف لكم سرًا احتفظوا به رجاءً: في حال عرض عليكم تذوق الصفيحة اليافاوية فلا ترفضوا الاقتراح لأن طعمها يأبى أن يترك أدراج الذاكرة، ناهيك عن الأسماك اللذيذة والأطباق الخاصة بيافا من أسماك ولحوم ونباتات وثمار أمست جزءً من المطبخ اليافاوي.
بالعودة إلى الحيز الزماني والمكاني، قلت إنني لا اعترض على المكان فهل لي اعتراض على الزمان؟ عند التفكير في هذا الموضوع تتلعثم أفكاري وتبرق عيناي وأسرح قليلًا علني أبحر نحو زمن تمنيت أن أعيش فيه وأعايشه، فترة لا تقل خطورة وصخبًا وديناميكية عمّا نعيش اليوم من عنف واضطراب وشهداء وحصار واحتلال وعدم استقرار. هناك أوجه تشابه كثيرة بين يافا اليوم بشكل خاص وفلسطين عامة وبين الفترة التي عاشتها يافا في ثلاثينيات القرن الماضي تحت الانتداب البريطاني البغيض. لنعرض أمامكم على شاشة الماضي البعيد صور ومشاهد وأشخاص وأماكن ونشاط وحركة واعمار وتطوَر لم تشهده أية مدينة من مدن حوض البحر الأبيض المتوسط وبالأخص في عالمنا العربي. ماذا لو اصطحبتكم إلى قاعة السينما الحمرا (1035 مقعدًا) في يافا لمشاهدة عرض فرقة نجيب الريحاني أو الاستماع إلى محاضرة المفكر المصري عباس محمود العقاد، أو إلى سينما نبيل ورشيد وفاروق في شارع جمال باشا، أو سينما أبولو في العجمي، ومغربي في المنشية. سآخذكم إلى ميناء يافا لتشاهدوا بأم أعينكم حركة الصادرات والواردات عبر الميناء، وقد تتصادف الزيارة مع هبوط الصناديق الخشبية الضخمة على رصيف الميناء لنشاهد سيارات المرسيدس القادمة من المانيا لوكيلها وصاحبها توفيق غرغور.
وطالما أننا في الميناء فنستقبل معا مراكب الصيد القادمة من عمق البحر مع أطيب الأسماك وبالأخص اللوكس والفريدة والسلطان إبراهيم. وسنرى هناك الأجران التي تحمل صناديق البرتقال الخشبية في طريقها إلى أوروبا. مشهد يتنافس فيه الصياد والبحار على ركوب الأمواج لتحقيق أهدافهم والسعي وراء رزقهم، وحركة انسيابية بين دخول وخروج البضائع من وعلى رصيف الميناء المزدحم بالقادمين من كل مكان للحج في بيت المقدس، ونسمع هناك لغات مختلفة: عربية، وانجليزية، وفرنسية، وإيطالية، ويونانية وغيرها من اللغات، أو نذهب سويًا إلى سوق إسكندر عوض، لشراء حاجاتنا من الذهب والملابس الفاخرة، ومن هناك ننطلق إلى محطة القطار ونأخذ رحلة من يافا إلى القدس للصلاة في المسجد الأقصى.
تخيلوا لو أنكم تجلسون في مقهى اللمداني عند ساحة البلدية أو مقهى المدفع بالقرب من مسجد يافا الكبير وبين أيديكم جريدة “فلسطين” لصاحبها عيسى العيسى أو “الدفاع” للشنطي لمتابعة آخر الأخبار المحلية والعالمية، ونستمع إلى الشيخ كامل يوسف البهتيمي القادم من مصر عبر إذاعة الشرق الأدنى اليافاوية أو إذاعة هنا القدس المقدسية التابعة لـ BBC عند برج الساعة أمام مبنى السرايا سنشاهد المواجهات مع الجنود البريطانيين على نطاق شبه يومي، وقد نذهب للمدرسة العامرية في النزهة ونجلس على مقاعد الدراسة مع الطالب إبراهيم أبو لغد وهشام شرابي وشفيق الحوت، أو في الكلية الأرثوذكسية عند جورج حبش، وقد نلتقي بغسان كنفاني الذي كان يتردد كثيرًا على يافا أو نستمع إلى محاضرة في الأدب للأستاذ خليل السكاكيني، ونذهب معا لافتتاح مدرسة حسن عرفة الجديدة وقد فتحت مباشرة بعد اضراب يافا الكبير 1936، ويعتبر أطول إضراب في العالم. ومطحنة الجلاد للقمح، وشركة السكر الفلسطينية، ومعمل النسيج في بيت دجن. وبناء مسجد النزهة بتبرع من سيدة يافاوية من عائلة القبطان، وبناء مستشفى الدجاني لصاحبه فؤاد الذي لاقته المنية وهو يقوم بواجبه تجاه مرضاه.
كل ما ذكر سابقًا، كان بدون شك رصيد ما قدَّمته لنا البيارات في يافا. هي تلك الفترة التي اتسمت بالانفتاح والتطور من جهة ومواجهة المستقبل والقرار بإقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، فكان من قضى نحبه وآخرون ما زالوا ينتظرون الأجل حتى يومنا هذا، وما بدلوا تبديلًا.