بالتفاصيل.. هكذا تسيطر روسيا والصين على الأمن الغذائي العالمي
كانت الشحنة المحاصرة منذ شهور في ميناء روتردام الهولندي ثمينة للغاية لدرجة أن الأمم المتحدة تدخلت للتوسط في الإفراج عنها. استأجر برنامج الغذاء العالمي سفينة لنقلها إلى موزمبيق، حيث تُنقل بالشاحنات عبر المناطق الداخلية إلى وجهتها النهائية، ملاوي. إنها ليست حبوباً أو ذرة، ولكن 20 ألف طن متري من الأسمدة الروسية، بحسب ما تشرح وكالة “بلومبيرغ”.
من المتوقع أن يواجه حوالي 20% من سكان ملاوي انعدام أمن غذائي حاد خلال “موسم العجاف” حتى مارس/ آذار، مما يجعل استخدام الأسمدة لزراعة المحاصيل أكثر أهمية. إنها واحدة من 48 دولة في إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية حددها صندوق النقد الدولي على أنها الأكثر عرضة لخطر صدمة تكاليف الغذاء والأسمدة التي أثارها الغزو الروسي لأوكرانيا.
بعد مرور عام، ترى الأمم المتحدة أن الاضطرابات في أسواق الأسمدة العالمية تمثل خطراً رئيسياً على توافر الغذاء في عام 2023.
ومع ذلك، إلى جانب الاعتبارات الإنسانية، فإن إدراك أن الكثير من العالم يعتمد على دول قليلة فقط في استيراد معظم الأسمدة، لا سيما روسيا وحليفتها بيلاروسيا والصين، يدق أجراس الإنذار في العواصم العالمية.
لقد دفع ذلك الأسمدة، ومن يسيطر عليها، إلى صدارة الأجندة السياسية في جميع أنحاء العالم: تعمل وزارة الخارجية الأميركية على تعزيز خبرتها في مجال الأسمدة، ويقوم الرؤساء بالتغريد عنها، وتظهر هذه القضية في الحملات الانتخابية، وأصبحت محور التركيز في التوترات بين الدول.
قال أوداي شانكر أواستي، العضو المنتدب والرئيس التنفيذي لـ “إينديان فارمرمرز كووبورايتف” أكبر منتج في الهند للأسمدة لوكالة “بلومبيرغ”: “إن دور الأسمدة لا يقل أهمية عن دور البذور في الأمن الغذائي للبلاد. إذا كانت معدتك ممتلئة، يمكنك الدفاع عن منزلك، يمكنك الدفاع عن حدودك، يمكنك الدفاع عن اقتصادك.”
تأثير العقوبات
أبرزت هزة العام الماضي في صناعة الأسمدة العالمية البالغة 250 مليار دولار دور روسيا وبيلاروسيا كمصدرين لما يقرب من ربع جميع مغذيات المحاصيل في العالم. في حين أن المنتجات الزراعية الروسية بما في ذلك الأنواع الثلاثة الرئيسية من الأسمدة، البوتاس والفوسفات والنيتروجين، لا تستهدفها العقوبات، ولكن لا تزال الصادرات مقيدة من خلال مجموعة من الاضطرابات في الموانئ والشحن والخدمات المصرفية والتأمين، وفق وكالة “بلومبيرغ”.
يقول الملياردير الروسي ومنتج الأسمدة أندريه ميلينشينكو لوكالة “بلومبيرغ”، إن نظام عقوبات الاتحاد الأوروبي أدى إلى انسداد التجارة إلى حد أنه قد يتسبب في تقليص إجمالي لشحنات الأسمدة بنحو 13 مليون طن بحلول عام واحد من الحرب التي بدأت في 24 فبراير/ شباط من العام الماضي. وميلينشينكو نفسه يخضع للعقوبات.
لقد كانت الأسمدة الروسية العالقة في طي النسيان في هولندا هي التي تم تحريرها كجزء من صفقة أوسع للأمم المتحدة للسماح بنقل الحبوب عبر البحر الأسود. كانت الدفعة التي بدأت في الوصول إلى ملاوي في وقت سابق من شهر فبراير هي الأولى من عدة شحنات مقترحة من الأسمدة التي تقطعت بها السبل في الموانئ من بحر البلطيق إلى بلجيكا والتي “تبرعت بها” مجموعة Uralchem-Urakali الروسية.
أدى اضطراب السوق إلى ارتفاع الأسعار في الصيف الماضي مما أدى إلى تخزين الأسمدة من قبل أولئك القادرين على تحمل تكلفة الأسمدة، وبينما انخفضت التكاليف منذ ذلك الحين بشكل كبير، إلا أنها لا تزال أعلى من مستويات ما قبل الوباء، بحسب وكالة “بلومبيرغ”.
الإمدادات محدودة في المناطق الفقيرة. تفاقم الوضع بسبب العقوبات المفروضة على بيلاروسيا عملاقة تصدير البوتاس إلى جانب قرار الصين، المنتج الرئيسي للأسمدة النيتروجينية والفوسفاتية، بفرض قيود على الصادرات لحماية الإمدادات المحلية، وهي قيود لا يرى المحللون أنه سيتم رفعها حتى منتصف عام 2023.
كانت النتيجة انقساماً مألوفاً تماماً: يقول ألكسيس ماكسويل، محلل بلومبيرغ إنتليجنس، إنه على الرغم من انخفاض الأسعار بأكثر من 50% عن ذروة العام الماضي، يظل المزارعون في جنوب شرق آسيا وأفريقيا أكثر انكشافاً من نظرائهم في أميركا الشمالية أو الصين أو الهند.
حذر بنك التنمية الأفريقي من أن تقليص استخدام الأسمدة من المرجح أن يعني انخفاضاً بنسبة 20% في إنتاج الغذاء، في حين يرى برنامج الأغذية العالمي أن أصحاب الحيازات الزراعية الصغيرة في العالم النامي معرضون لخطر “أزمة كبيرة في توافر الغذاء حيث تؤدي أزمة الأسمدة والصدمات المناخية والصراع إلى خفض الإنتاج”.
حذر الرئيس الإندونيسي جوكو ويدودو في قمة مجموعة العشرين التي استضافها في نوفمبر من “عام أكثر كآبة” في المستقبل دون اتخاذ خطوات فورية لضمان توافر العناصر الغذائية بأسعار معقولة. تعهد رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، الذي يتولى الآن رئاسة مجموعة العشرين، بتركيز الجهود على “نزع الطابع السياسي” عن إمدادات الأسمدة العالمية، “حتى لا تؤدي التوترات الجيوسياسية إلى أزمات إنسانية”، كما كتب في صحيفة تايمز أوف إنديا في ديسمبر/ كانون الأول.
تداعيات واسعة
إن التداعيات الجيوسياسية محسوسة بعيداً عن أوكرانيا مثل كندا، أكبر منتج للبوتاس في العالم (روسيا وبيلاروسيا في المرتبة الثانية والثالثة على التوالي). سافر وزير الزراعة البرازيلي إلى هناك فور اندلاع الحرب لتأمين المزيد من الشحنات للقوة العظمى المصدرة للغذاء، بينما قالت حكومة رئيس الوزراء جاستن ترودو إنها تبحث في زيادة الصادرات إلى أوروبا من “السلع الاستراتيجية” بما في ذلك البوتاس، وفق وكالة “بلومبيرغ”.
أنشأت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة أداة تعقب التجارة العام الماضي تظهر أن العديد من المستوردين الصافين في أميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية وآسيا الوسطى يعتمدون على روسيا لأكثر من 30% من جميع مكونات الأسمدة الرئيسية الثلاثة.
وفي أوكرانيا، التي اعتبرت لسنوات سلة خبز أوروبا، حذر وزير الزراعة ميكولا سولسكي في كانون الثاني/ يناير) من أن محصول الحبوب هذا الصيف سيتأثر، حيث تم شراء واستخدام عدد أقل من العناصر الغذائية في الخريف.
أدى السباق للحصول على إمدادات الأسمدة إلى ظهور جهود لتشجيع الاكتفاء الذاتي. في صدى لقانون الرقائق الذي أتاح 50 مليار دولار لإنتاج أشباه الموصلات في الولايات المتحدة، أعلنت إدارة الرئيس جو بايدن عن منح بقيمة 500 مليون دولار لزيادة “إنتاج الأسمدة الأميركية الصنع”.
تنتج الولايات المتحدة الأسمدة وهي مستورد رئيسي، وحتى الآن لا يزال بإمكان مزارعيها الحصول على الكثير من العناصر الغذائية. لا يمكن قول ذلك عن بعض جيرانها. تعتمد أميركا اللاتينية على استيراد 83% من الأسمدة المستخدمة، ومعظمها من روسيا والصين وبيلاروسيا، وفقاً للمعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية ومقره واشنطن.
بفضل حسن الحظ الجيولوجي، يعد المغرب موطناً لـ 70% من احتياطيات العالم المعروفة من الفوسفات، المصدر الطبيعي للفوسفور، وهو عنصر غذائي أساسي يستخدم في الأسمدة. وهذا يجعل المغرب ومجموعة OCP المملوكة للدولة، المسؤولة عن التعدين والمعالجة والتصنيع وتصدير الفوسفور، محورية للأمن الغذائي في عالم أعيد تشكيله بفعل الحرب الروسية، بحسب وكالة “بلومبيرغ”.
يلقي الرئيس فلاديمير بوتين باللوم على العقوبات في تعطل إمدادات الأسمدة من روسيا، قائلاً في أواخر نوفمبر / تشرين الثاني إنه تم تجميد أكثر من 400 ألف طن في الموانئ الأوروبية.
ومنذ ذلك الحين تم رفع تجميد جزء من هذا المبلغ والتبرع به. تقول الأمم المتحدة إن المشكلة الأساسية تكمن في عدم رغبة شركات التأمين على الشحن في تغطية الشحنات الروسية، ومع عدم قدرة البنوك الزراعية الرئيسية على إجراء المعاملات المالية لأنها منفصلة عن نظام سويفت. أصدر الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بياناً مشتركاً في نوفمبر يوضح أن “البنوك وشركات التأمين والشاحنين والجهات الفاعلة الأخرى يمكنها الاستمرار في جلب الأغذية والأسمدة الروسية إلى العالم”.