أخبار رئيسية إضافيةمقالات

الدونكيشوتية ومعارك طواحين الهواء

 

 

ليلى غليون

 

“دون كيشوت”؛ رواية في الأدب الإسباني للكاتب الروائي “ميجيل دي سرفانتس”، كتبها عام 1605، وفاقت شهرتها الآفاق حيث تُرجمت إلى معظم لغات الأرض.

ملخص الرواية: “دون كيشوت” هو رجل نحيف طويل قد ناهز الخمسين- برجوازي متوسط الحال عاش في إحدى قرى إسبانيا في القرن السادس، قرأ كثيرا عن الفروسية، حتى كاد يفقد عقله وينقطع ما بينه وبين الحياة الواقعية ليبلغ به هوس الفروسية حدًا جعله يفكر في أن يعيد دور الفرسان الجوالين، وذلك بتقمص شخصيتهم والسير على نهجهم.

مشكلة “دون كيشوت” أنه كان يرى الأمور على غير حقيقتها ويحارب أعداء وهميين غير حقيقيين، بل وفق ما يصوره خياله من أوهام.

من أشهر معاركه معركة طواحين الهواء، التي عندما شاهدها تدور في الفضاء أوحى له خياله أنها شياطين شريرة لها أذرع كثيرة، فدب به حماس منقطع النظير وانطلق لمحاربتها، وكانت النتيجة أنها رمته أرضًا بكل قوة ورضت عظامه.

ومن معاركه أيضا معركة الغبار الذي رآه فوق قطيع أغنام، حيث صور له خياله أنها جماعة من الفرسان الأعداء، فانطلق بحصانه لقتالهم، لتكون النتيجة أنه قتل عددًا كبيرًا من الأغنام، ولكنه في المقابل تلقى “علقة” ساخنة وضربًا مبرحًا من قبل الرعاة فقد فيها بعض أضراسه.

والخلاصة، أنَّ دون كيشوت كان يعيش بأوهامه وخيالاته وظنونه خارج الواقع وخارج الزمن، الأمر الذي أدى به لأن يخسر كل معاركه، لأنها كانت وهمية ومن صنع خياله.

واليوم، كم هي الشخصيات الدون كيشوتية التي تعشعش في مجتمعاتنا، وتسيّرها الظنون والأهواء والمصالح وتثير زوابع وعواصف ليست إلا عواصف في فنجان؟ كم هي الشخصيات الدون كيشوتية الموجودة بيننا التي انفصلت عن الواقع واتبعت هواها وانحرفت عن أهدافها وانشغلت بمعارك جانبية؟ كم هي الشخصيات الدون كيشوتية بيننا التي تضخم الأمور الصغيرة وتلبسها ثيابا بمقاسات كبيرة جدًا تكاد تضيع وتتلاشى فيها، ثم تراها تعتلي صهوة جواد مهترئ، حاملة سيفها الخشبي استعدادًا لمعارك مفترضة غير موجودة إلا في ميادين خيالها؟

كم هي الشخصيات الدون كيشوتية التي تكذب الكذبة وتصدقها ثم تضع عليها من الرتوش والمساحيق التجميلية وتتعامل معا وكأنها حقيقة وواقع وتبني عليها الأحكام والمعتقدات، وتعادي هذا لأجلها، وتخاصم ذاك، وهي لا تعدو كونها كذبة أفرزتها نفس مضطربة؟

إنَّ شخصية دون كيشوت ليست خرافة ولا من نسج الخيال، بل قد نجدها في كل أشكال حياتنا اليومية، في بيوتنا، في مؤسساتنا، في الشارع، في الأقارب والأصحاب والجيران الذين وصل بهم الحال لحد القطيعة بسبب معارك أشعلوها لا تعدو أكثر من طواحين هواء، نجدها في مواقع التواصل الاجتماعي، أبطالها فيسبوكيون أشعلوا فيها معارك فيسبوكية طاحنة لا تنتهي وحروبات تويترية واسنابية لا تقل عنها شراسة والتي عملت تدميرًا وفتكًا بين الأفراد والمجتمعات.

إنَّ الدخول في معارك وهمية حتمًا سيهدر الطاقات والأوقات وسيشتت الجهود التي كان من الممكن أن تصبح طاقة إيجابية لو وُجهت لمعارك حقيقية، فضلًا عن أنه سيأتي بنتائج وخيمة وحصاد مر كان في الإمكان تفاديه لو كانت النظرة إلى الأمور نظرة صحيحة، متزنة، ثاقبة.

فمشكلة الدون كيشوتية تكمن في أنها تنظر إلى الأمور بمنظارها الخاص لا كما هي على حقيقتها، وعندما تكون النظرة إلى الشيء مبنية على الظن والهوى فإن الحكم حتمًا سيأتي خاطئًا، وفي التالي فإن ردود الأفعال ستكون بعيدة كل البعد عن الصواب.

إن دون كيشوت قد يكون أنت أيها الزوج عندما تتربص بزوجتك كل زلة وكل هفوة معتقدًا بذلك أنها الرجولة وأنها الشخصية القوية، وأنك بهذه الطريقة تحافظ على رجولتك وصورتك ومركزك في البيت؛ فتفتعل لها المشاكل الوهمية وتحاسبها على الصغيرة والكبيرة لتهابك وتحسب لك ألف حساب، وقد يكون في ذلك ضياع الأسرة وتشتتها.

ودون كيشوت قد يكون أنت أيتها الزوجة عندما يوحي لك خيالك وما تفرزه أوهامك وتستشري بك الظنون فترتابين من تصرفات زوجك وسلوكياته إذا دخل وإذا خرج، إذا تكلم بهاتفه وإذا اهتم بهندامه وأناقته، إذا تأخر بالمجيء إلى البيت أو… فتفسرين ذلك تفسيرات بينها وبين الصواب والحقيقة مسافات شاسعة معتقدة بأن زوجك حتما على علاقة مع أخرى، فتنشب بينكما الخلافات والمطاحنات التي قد تؤدي بكما إلى المحكمة الشرعية للبتّ في الطلاق.

إن دون كيشوت ممكن أن يكون أنتِ أيتها الحماة عندما تنظرين إلى كنتك وكأنها لص جاء ليسلبك ابنك فلذة كبدك الذي تعبت في تربيته السنين الطوال، فتثيرين بينك وبينها غبار المشاكل والحروب المبنية على حكم مسبق أساسه الوهم، فتتحول العلاقة الأسرية إلى جحيم لا يطاق.

إن دون كيشوت قد يكون أنتِ أيتها الكنة التي ما أن تطأ قدماك منزل الزوجية حتى تسعين لوضع الحدود الشاهقة بينك وبين أهل زوجك، والتي رسمها خيالك لاعتقادك المسبق وتفكيرك المبني على الظن والأوهام أن الحماة “بعبع”، “إن لم تتغدي بها ستتعشى بك” كما يقول المثل الشعبي، لتبدأ المشاكل والخلافات التي كنت في غنى عنها لو لم تتبني تلك النظرة الخاطئة منذ البداية.

إن “دون كيشوت” يمكن أن يكون أنت أو أنا أو أي واحد منا يتوهم الأعداء والخصوم في كل إنسان.. ووراء كل كلمة أو تصرف بسيط، وذلك عندما تستحكم بنا الظنون والشكوك ونسمح للخيال أن يضع أغشية سوداء على بصيرتنا ويكون هو قائد مسيرتنا، فتكون أفعالنا مبنية على هذه الظنون، والتي بلا أدنى شك ستتمخض عنها نتائج مؤلمة مثل التي حصدها “دون كيشوت”، وربما أصعب وأشد.

لكن وللحقيقة- وحتى أكون منصفة مع “دون كيشوت” الأصلي- فهناك فارق بينه وبين “دون كيشوت” هذا الزمان، فشخصية “دون كيشوت” التي عرضها الروائي الإسباني “سرفانتس” كان هدفها نشر الحق والعدل وكل القيم النبيلة بالرغم من أن منهاجه كان في طريق الخطأ المبني على الأوهام، ولكن “دون كيشوت” في زماننا هذا تتملكه الظنون وتسيره الأوهام ويفسر الأمور على مزاجه وما تمخضت عنه نفسه المريضة، انطفأ فيه سراج البصيرة ليقاوم كل ما هو عكس رؤيته، ويرى الخطأ والصواب من وجهة نظره وما يراه هو مناسبًا، إنما يفعل ذلك بسبب تضخم الـ “أنا” و”انتفاخ الذات” وقصر البصر وعمى البصيرة الذي جعل مصالحه الشخصية هي الهدف الأسمى الذي لأجله يحارب طواحين الهواء وكل المعارك الوهمية التي يخوضها ولو كلفه ذلك ثمنًا باهظًا من محبة الآخرين واحترامهم وتواصلهم معه، ولو خسر بذلك الدنيا بأسرها، المهم أن ينتصر لنفسه ولرأيه وبعدها ليكن ما يكون.

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى