معركة الوعي (149) سيحرقون البيدر بأيديهم
حامد اغبارية
يُعتبر فلسطينيو الداخل، في نظر المؤسسة الإسرائيلية، أحد أهم وأخطر الملفات التي تعاطت معها منذ تأسيس الكيان عام 1948 ولغاية اليوم. فهي تنظر إلى هذا الجزء من الشعب الفلسطيني من منظار أمنيّ بحت، وتستخدم- في التالي- أدوات أمنية صارمة في التعامل معه. من خلال ذلك يمكن أن نفهم أن أهل الداخل الفلسطيني يشكّلون عبئًا أمنيًّا على المؤسسة، إضافة إلى كونه- في نظرها- عبئًا ديمغرافيًّا لا يقل أهمية.
لقد حاولت المؤسسة الإسرائيلية طوال العقود السبعة الماضية أن تفرض على مجتمع الداخل الفلسطيني إحدى أصعب المعادلات التي يمكن أن يواجهها مجتمعٌ فُرض عليه العيشُ وسط أغلبية لم يختر هو العيش معها بإرادته. فمن جهة مطلوب منه أن يسعى إلى الاندماج بكل ما أوتي من قوة، ومن جهة ثانية سَدّت في وجهه كل باب يحقق هذا الاندماج، ومن ثمَّ تركته معلّقا في الهواء، يتمسك بأوهام اللعبة السياسية الإسرائيلية، وليس تحت قدميه أرض صلبة تستقر عليها هويته. وبين طرفي هذه المعادلة وضعت المؤسسة هذا المجتمع تحت مجهرها الأمني، ولاحقت كلّ فرد أو مجموعة أو تيار، وضيّقت عليه ولّفقت له الملفات الضخمة، وسنّت لأجله القوانين التي تمكّنها من الفتك به، كقانون منع الإرهاب على سبيل المثال لا الحصر، تماما كما فعلت في بدايات طريقها عندما سنّت عشرات القوانين من أجل نهب الأرض الفلسطينية من أصحابها، مثل قانون أملاك الغائبين وقانون أراضي إسرائيل على سبيل المثال لا الحصر.
يقف مجتمع الداخل الفلسطيني اليوم في مواجهة سياسات حكومة هي أكثر حكومات المؤسسة الإسرائيلية تطرُّفا وتعطُّشا لسحقنا وحشرنا في مربّع العبيد. وقد بدا واضحا منذ اللحظة الأولى لتشكيل هذه الحكومة قبل أقل من شهرين، أن عينها على مجتمع الداخل ربما بقدْرٍ أكبر من أي ملف آخر أو جبهة أخرى.
نحنُ إذًا جبهة مستهدفة استهدافا مباشرا من الحكومة ثلاثية الرؤوس. هذه الحكومة التي هي عبارة عن ثلاث حكومات تحدثتُ عنها في مقال سابق، إحداها الحكومة التي يقودها بن غفير وسموطرتش، وهي التي تهمنا في هذا السياق.
نحن لا نتعامل مع حكومة واحدة لها عنوان واحد، بل مع حكومة جعلتنا هدفا لسياساتها الباطشة التي قررت منذ لحظتها الأولى التعامل معنا بيد من حديد، كذلك من خلال المنظور الأمني. فهي لا تتعامل معنا كمواطنين، ولا حتى كمواطنين من الدرجة الثانية، بل تتعامل معنا كأعداء، وفي أحسن الأحوال تتعامل معنا كأعداء مفترضين.
لا يمكن، ويجب ألا تخدعنا التصريحات، ولا ما يقوله أو ما يقال عن وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير، الذي تعتبر وزارته أكثر الوزارات تعاطيا مع مجتمع الداخل (إضافة إلى الداخلية)، من أنه غيّر بعض مواقفه وتراجع عن بعضها. فهو لم يفعل ذلك إلا من أجل إرضاء نتنياهو حتى يسهل تسويقه ووصوله إلى الوزارة. والحكَم الفصل في نهاية المطاف يكون بالنتائج وبما يحدث على أرض الواقع وليس بالأقوال. وعلى ذلك فإن مجتمعنا تتعامل معه الحكومة التي يرأسها بن غفير الذي نشأ على أفكار مرشده الروحي مئير كهانا، ولم يتخلّ عنها حتى هذه اللحظة، ومثلُه الأعلى في التعامل مع الفلسطيني والعربي والمسلم، جولدشطاين، سفاح مجزرة الحرم الإبراهيمي.
ولأنّ العقيدة والإيديولوجيا هي التي تحدّد السياسات والسلوك والممارسات، فما عليك سوى أن تراجع حقيقة هذا الشخص من خلال أفكاره التي انعكست على أرض الواقع تجاهنا حتى قبل أن يصبح وزيرا.
لقد عمل بن غفير منذ كان فرخَ مستوطن على التعاطي معنا بالمطرقة الحديدية من خلال محاولاته المتكررة لاقتحام بلدات عربية مثل أم الفحم والناصرة ومصمص وغيرها، حاملا رسالة مفادها أن هذه البلاد بلاده والأرض أرضه، ونحن طارئون فيها، ولذلك يلزمنا الـتأديب إذا ما رفعنا رؤوسنا!!
لقد قال بن غفير عن السفاح جولدشطاين: “هذا بطلي”..
وقال عن مرشده الروحي كهانا: “هذا نبي في مدينتنا، وسنواصل طريقه..:”.
وقال: “نريد طريق الراف كهانا في السلطة”.
وقال: “عوتسماه يهيوديت تعني طرد أعدائنا، سنعطيهم تذكرة سفر باتجاه واحد”.
وقال أيضا: “الإيديولوجيا هي نفس طريق الراف كهانا، لكن الوسائل مختلفة”.
وقال: “صورة مئير كهانا معلقة عندي في البيت وليس لدي نية لإنزالها”.
هذا فقط جزء بسيط مما قاله بن غفير، والذي يعكس حقيقة تفكيره وعقيدته في التعاطي معنا في الداخل الفلسطيني.
وإنك إذا حاولت أن تسترجع تعامل مختلف الوزرات في الحكومات الإسرائيلية المختلفة، وخاصة الحكومة الحالية، فإنك سوف تكتشف أن كلّ وزارة تتعامل مع مجتمع الداخل لا كوزارة يُفترض أنها تقدم خدماتها لمواطنيها (حتى لو كانوا مواطنين من الدرجة الرابعة) وإنما تتعامل معه على أنها حكومة كاملة الأركان. هذا ينسحب على وزارة الأمن الداخلي (القومي) ووزارة الداخلية ووزارة المالية ووزارة الرفاه ووزارة المواصلات وسائر الوزرات التي لهذا المجتمع علاقة مباشرة معها. ذلك أن كل وزارة تنظر إلينا من ذات المنظور. ذلك هو المنظور الأمني. ومعنى ذلك أنها إذا قررت أن تمنحك خدمة أو ميزانية فإنها تقول لك: أعطيك ما يعطي السيد لعبيده وخدمه، وأنام ويدي على الزناد مصوّبا إليك.
بهذه العقلية والعقيدة تتعامل معنا المؤسسة الإسرائيلية منذ عقود سبعة. وقد شهدت تلك العقود هبوطا وصعودا وتطرفا واعتدالا نسبيا ثم تطرفا أكثر من الذي سبقه، طبقا لعقيدة منفذي السياسات ووسائلهم في تحقيق الهدف الواحد. لكنهم جميعا لم يتخلّوا عن النظرية الأمنية، فأبقوْنا تحت عدستهم المكبرة.
والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: هل ستنجح سياسة حكومة بن غفير تجاهنا؟ هل ستنجح في تدجيننا؟ هل سينجح بن غفير ومِن خلفه شركاؤه في كراهية الفلسطيني؛ نتنياهو وسموطرتش ودرعي في تحقيق أهدافه الحقيقية تجاه مجتمع الداخل؟
يغلب عليّ الظنّ أن هذه الحكومة عمرها قصير لأسباب كثيرة يقف في مركزها أسباب داخلية تتعلق بالشارع اليهودي الإسرائيلي. ولكن إذا ما كتب لها الاستمرار أكثر من المتوقع فإنها ستستخدم ضد مجتمع الداخل أقسى وسائل القمع والتضييق والملاحقة وتقييد الحريات. ولكن لأنه لكل مسألة طرفان، فإن الطرف الآخر الذي هو مجتمع الداخل سيقف عندها أمام خيارين: إما أن يطأطئ (للعاصفة) ويستسلم ويبحث عن وسائل لتخفيف الوطأة ويمارس ذات سياسات رد الفعل التقليدية، وإما أن يقرر أنه لا يمكن أن يقبل بالواقع الجديد. فهل تصل اللحظة التي سيقدم فيها بن غفير وحكومته على حرق البيدر؟؟! أعتقد أن هؤلاء الحمقى سيحرقون أيديهم وهم يشعلون النار في البيدر…..