لا تجعلوا من الحمقى مشاهير
ليلى غليون
هذه العبارة كانت عنوانًا لحملة انطلقت قبل فترة في كندا والولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من البلدان الأوروبية، لمحاربة الأغبياء المنتشرين على وسائل التواصل الاجتماعي، وللحد من سيطرتهم على الوعي المجتمعي بطرق تهريجية تافهة تعكس بضلالها على عقول الناس الذين يتفاعلون معها، بل وينقادون إليها ليصبح هؤلاء الحمقى ليس فقط نجومًا ومشهورين، بل ومؤثرين وقدوة يقتدى بهم خاصة عند فئة المراهقين والشباب الذين يقلدونهم في حركاتهم وسكناتهم وحتى في طريقة كلامهم.
إنَّ ظاهرة صناعة المشاهير الحمقى ظاهرة كونية نجدها في معظم المجتمعات العالمية على أنواعها واختلافها، في ظل انتشار منصات التواصل التي نقلت المجتمعات نحو مرحلة من العالم الافتراضي، لتكون الحاضنة والدفيئة الخصبة التي تنتج هؤلاء المغمورين ممن يسعون وبأي وسيلة ليكونوا مركز اهتمام الآخرين ومثار إعجابهم لتحقيق الشهرة والثراء من لا شيء، فنظرة حولنا نجد أن التفاهة أخذت حيزًا كبيرًا من المحتويات التي تصلنا ونتابعها، بل محتويات قد تكون أخطر من الألغام يزرعونها في وعي الناشئة على وجه الخصوص لتنفجر بهم وتدمر مبادئ وقيم وأخلاق مغروسة فيهم تجعل منهم أصفارًا على هامش مجتمعاتهم.
يقول الفيلسوف الإيطالي أمبرتو أيكو: “إن أدوات التواصل الاجتماعي تمنح حق الكلام لجيوش من الحمقى ممن كانوا يتكلمون فقط في الحانات بعد تناول كأس من النبيذ من دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فورًا، أما الآن فلهم الحق في الكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل، إنه غزو البلهاء”.
ويقول الكاتب النمساوي كارل كراوس: “هوت شمس الثقافة أرضًا حتى أصبح الأقزام يظهرون بمظهر العمالقة”. وقد كتب أحد الإعلاميين العرب معلقًا على هذه الظاهرة: “لا شك أن السوشيال ميديا أتاح المجال لفيالق من الحمقى الذين كان بالإمكان إسكاتهم قبل هذه التقنية”.
نعم لقد تصدر الحمقى المشهد الإعلامي لنشر الإسفاف، كما تصدرت مواقع التواصل الاجتماعي سيادة نظام التفاهة ليحقق التافهون شهرتهم على منصاتها، وفتحت الباب على مصراعيه للفارغين من مصابي مرض الشهرة الوهمي للوصول إلى أعلى قمم الشهرة الزائفة وبأي وسيلة كانت، فليس من الضروري للوصول إلى مبتغاهم أن يملكوا موهبة أو علم أو اختراع في أي مجال، إنهم أناس حمقى سذج بضاعتهم هرطقة واستهبال العقول، محتويات تروج للفضائح والترفيه المبالغ فيه، بل الجنوني أحيانًا، حركات بهلوانية، قصة شعر غريبة أو تسريحة أغرب منها، صراخ جنوني، ألفاظ وكلمات نابية تخدش المروءة وتجفف ماء الحياء، مقاطع تحمل جبالًا من الطيش والبذاءة وغيرها من الفوضى العارمة من اللا أخلاق واللا قيم التي يقف العقل عندها مصدومًا من تفاهتها وقرفها، ولكنها وللأسف الشديد لها من التأثير على العقول ولها من التشجيع والمتابعة ما يجعل الحليم في حيرة من أمره، لنجد أنفسنا أمام طوفان من التفاهة والتافهين ممن أصبحت بيدهم قيادة الرأي العام ليس فقط على مواقع التواصل الاجتماعي بل في العديد من الشركات والمؤسسات والحكومات وغيرها من مراكز التأثير.
والسؤال الذي يجب أن ُيسأل: من الذي جعل من هؤلاء الحمقى مشاهير ومن هو المذنب الحقيقي لاشتهار هؤلاء؟
والجواب على هذا السؤال ليس بالصعب ولا يحتاج لبحث ولا لتفكير طويل، لأننا وببساطة نحن من ساهمنا بدفع هؤلاء النكرات والمجاهيل والمغمورين للصعود إلى سلم النجومية، نحن من سلَّطنا عليهم الأضواء، نحن من صنعنا منبرًا لمن لا يستحق الكلام، وهالة الضوء التي اكتسبها هؤلاء هي مسؤوليتنا وتحديدًا الشريحة التي منحتهم هذه الهالة، وساهمت في صنع نجوميتهم وشهرتهم وساعدت على تضخمهم وللأسف على حساب المثقفين الحقيقيين ذوي المواهب والمشاريع والعلم. فهي تقدم خدمة مجانية لهم بمتابعة هرطقاتهم وسخافاتهم وبالتعليق عليها، حتى لو كان التعليق سلبيًا أو “بالدسلايك” فهذا بحد ذاته يُعد تفاعلًا وتشجيعًا ويعود عليهم بالدعاية السلبية التي تروِّج لحماقتهم.
إن هؤلاء الفقاعات لم يكونوا ليصلوا إلى ما وصلوا إليه لولا وجود هذه الشريحة- وأظنها ليس قليلة- تتقبل مثل هذه الحماقة وتتابعها، بل ومعنية بمتابعتها حتى لو كان من باب الفضول، وإلا فمن أين لهم هذه الملايين من المشاهدات واللايكات والكومنتات والمشاركات؟
يقول سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “إن لله عبادًا يميتون الباطل بهجره، ويحيون الحق بذكره”.
فإذا أردنا أن نسقط سيادة السفهاء فالأولى تجاهلهم، لأن تجاهلهم يعني عدم اشتهارهم وبالتالي عدم إعطائهم مساحة ليست لهم.
إن متابعة هؤلاء ليست فقط جريمة في ضياع الأوقات بما سفه وتفه، وليست فقط جريمة بحق الذوق العام، وليست فقط جريمة أدت لتسطيح الفكر والثقافة وتهميشها، ولكن الجريمة الأعظم والطامة الكبرى أن تصبح المتردية والنطيحة قدوة يتربى الناشئة على يديها وفي مدرستها، إنها قصة قصيرة أبطالها حمقى ولكن ضحاياها غوالي، إنهم أبناؤنا وبناتنا شبابنا وشاباتنا وأوقاتنا التي تضيع هدرًا على هؤلاء وبغفلة منا.
إنه لمحزن جدًا، بل ومؤسف أن نجد المنصات التي تقدم محتويات هادفة وأصحاب مشاريع مفيدة ومواهب عظيمة لا يتابعها ولا يتفاعل معها إلا القليل بينما المنصات التافهة تحصد الملايين.
وما أصدق الشاعر حيث قال:
خنافس الأرض تجري في أعنتها.. وسابح الخيل مربوط إلى الوتد
وأكرم الأسد محبوس ومضطهد.. وأحقر الدود يسعى غير مضطهد
وأتفه الناس يفضي في مصالحهم.. حكم الرويبضة المذكور في السند
لقد كتب الكثير عن نظام التفاهة الذي يسود اليوم العالم بأسره وليس فقط منصات التواصل الاجتماعي، فكتب الفيلسوف ألان دونو كتاب “نظام التفاهة” مبينًا سيطرة التافهين على مفاصل الكون. وكتب مهند الأسمري كتابًا بعنوان “مشاهيرنا الحمقى” وكُتبت العديد من المقالات حول ظاهرة صناعة الحمقى، ولكنه الذي أوتي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم والذي لا ينطق عن الهوى والذي وصف حالنا وكأنه صلى الله عليه وسلم بيننا بعبارة جامعة بليغة جمعت ما جاء في كل الكتب والمقالات والمطبوعات التي تناولت نظام التفاهة واشتهار الحمقى لقوله صلى الله عليه وسلم: “سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين وينطق فيها الرويبضة، قيل وما الرويبضة يا رسول الله؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة”. وقد نطق الرويبضة وعلا شأن السفيه وتحدث التافه في أمر الناس. نسأل الله العفو والعافية.