قراءة في السياقات السياسية لحكومة نتنياهو السادسة (2/4)
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
كنت قد أشرت في المقالة السالفة التي افتتحت هذه السلسلة من المقالات، أننا نروم التعرف على السياقات التي أدَّت إلى تسلم اليمين بشقيه الديني والمحافظ-العلماني سدة السلطة في هذا الكيان، وهو ما أدى إلى ردود أفعال تنبئ بأنَّ الأوضاع داخل المجتمع الإسرائيلي باتت تقترب من المجهول السياسي والاجتماعي.
ومعلومٌ أنّ اليمين حكم البلاد منذ عام 1999 منفردًا وبشراكات مختلفة، اللهم إلا سنوات رابين (1992-1995). ولكن، ما ميَّز هذه الحكومة (الحكومة السادسة لنتنياهو) أنَّ الشركاء الأساس في هذه الحكومة من اليمين الديني القومي والصهيوني والتيار الحاريدي. وقد تقدَّم التيار الديني الصهيوني بمركباته المختلفة بسلَّة من الطلبات التي تحوَّلت إلى اتفاقيات أُبرمت مع الليكود لتكون برامج عمل حكومية، تؤسس لواقع جديد ومختلف في المجتمع اليهودي الكولونيالي يروم من ورائه التيار الديني الصهيوني تديين المجتمع اليهودي وفقًا لنمط محدد يجمع بين القومية واليهودية ويضع الحواجز بينه وبين الآخر العلماني “الإسرائيلي”.
السياقات الثلاثة..
نزعم في هذه المقالات أنَّ ثلاثة سياقات دفعت إلى هذه اللحظة الفارقة في تاريخ الكيان، وهي: السياق السياسي وما يتعلق به من جدل في علاقة الدين والدولة، والعلاقة التي كونها- تاريخيًا- حزب “المباي” مع الشرقيين والجروح التي راكمت هذه العلاقة وصولًا إلى أن تكون هذه المجموعة، الخزان الانتخابي لليمين الإسرائيلي عمومًا والليكود خصوصًا، وسببًا مباشرًا في تأسيس حركة شاس مطلع ثمانينيات القرن الماضي وانفصالهم عن جماعة “يهدوت هتوراة” ومرجعية الراف شاخ. أمّا السياق الآخر فهو الاجتماعي ثمَّ السياق الاقتصادي. وهذه السياقات منذ ظهورها مع قيام الدولة وإلى هذه اللحظات، تخلق تفاعلات وتداعيات سواء كانت هذه التفاعلات داخل المكونات الناظمة للمجتمع اليهودي أو خارجه، فعلى سبيل المثال لا الحصر، يشكِّل الناظم التربوي بُعدًا ثاويًا ومهمًا في الوصول إلى هذه اللحظة من صيرورة المجتمع الإسرائيلي ويمكن للقارئ الكريم متابعة الحلقات التي تبثها القناة 11 شبه الرسمية في نشرتها المركزية حول حركة شاس ودورها المجتمعي والدور الأساس للهيكل التعليمي والتربوي كمعزز للهوية الشرقية الحاريدية من جهة، وكرافد قيمي تربوي وثقافي يؤسس لمجتمع “متدين” ويتعاطى الحداثة، من جهة أخرى. ويشكل هذا الرافد أساسًا اجتماعيًا وسياسيًا لتطور وتمَكُن الحاضنة الدينية من التغلغل في المجتمع عبر الشبكات التربوية الدينية والثقافية لهذه الحركات والأحزاب، وتمكنها من التغلغل المجتمعي واختراق المجتمعات العلمانية.
كان الرئيس السابق رؤفين رفلين، قد حدَّد المجتمع الإسرائيلي بأنه مجتمع الأسباط الثلاثة: السبط الحاريدي، والمتدين الصهيوني والقومي، والعلماني. وهذه المجتمعات ثمة تناقضات وتعقيدات في العلاقة بينها، فعلى مستوى التيار الحاريدي لن تجد الحاريدي الشرقي كالحاريدي الاشكنازي مهما تلاعب الإعلام في حقيقة العلاقة بينهما. ومعلومٌ أنَّ المدارس الدينية الحاريدية الاشكنازية رفضت وترفض استقبال طلاب من الحاريديين الشرقيين، كما أنّ أنماط حياتهم وثقافتهم مختلفة، لكن كلا المجموعتين تكن كراهية خاصة للعلمانيين وخاصة “المباميين” المؤسسين للدولة، على الرغم من التفاهمات التي حدثت بين كبار الحاخامات وبن غوريون، وتحددت على ضوء هذه التفاهمات العلاقة بينهم وبين الدولة.
شيء من التاريخ السياسي المؤسس للراهن السياسي..
انتخبت الكنيست الأولى سنة 1949 (14 فبرابر 1949- 20 أغسطس 1951) أي انها استمرت عامين ونصف فقط، وخلال العامين شكلَّ بن غوريون حكومتين، الأولى حلَّها بسبب أزمته مع الأحزاب الدينية في موضوع التعليم في معسكرات القادمين الجدد (المعبروت) حيث كان معظمهم من الشرقيين. والثانية أيضا تمَّ حلُّها بسبب اقتراح على جدول أعمال الكنيست تعلقَّ في موضوع التعليم في معسكرات القادمين الجدد. وفي الكنيست الثانية (20 أغسطس 1951 وحتى 15 أغسطس 1955) قامت أربع حكومات حلَّ بن غوريون الحكومة الثالثة في تلكم المرحلة، بسبب خلافاته مع الأحزاب الدينية الحاريدية حول خدمة البنات في الخدمة القومية وشبكة التعليم الخاص بالتيار الديني الحاريدي والصهيوني، كل على حدة، وقد شهدت هذه السنوات انفصالات داخل المعسكر العمالي الذي قاده بن غوريون، وانفصالات داخل الحركة الكيبوتسية، وكذلك شهدت هذه السنوات مظاهرات صاخبة كهذه التي نشهدها اليوم على خلفية قبول بن غوريون التعويضات من ألمانيا. ووقف مناحيم بيغن في مقدمة المتظاهرين، بل وهاجموا مبنى الكنيست، ولقد لعب المال الألماني دورًا مهمًا في النهضة الاقتصادية، وقد يكون هذا من الأسباب التي دفعت ببن غوريون فضلًا عن أسباب تعلقت بتأزم العلاقات مع المعسكر السوفياتي، إلى تبني رؤية سياسية تقضي بالتوجه نحو الغرب والاعتماد على الولايات المتحدة الأمريكية، التي بدأت بمساعدتهم في تلكم المرحلة المُبكرة.
في الكنيست الرابعة (30 نوفمبر 1959-4 سبتمبر 1961) حدثت مواجهات بين الحزب الحاكم بقيادة بن غوريون والتيار الديني وكانت خلفيات القضايا مختلفة، منها ما هو إجرائي كفشل الحكومة في اختيار كبير حاخامات الاشكناز بعد موت الحاخام الأول للأشكناز يتسحاق هليفي هرتسوغ، ومنها ما له علاقة في التاريخ والأيديولوجيا كالموضوع الذي طرحته الجبهة الدينية التوراتية والمكونة من أحزاب “أغودات يسرائيل” وعمال “أغودات يسرائيل” المتعلق بأعداد اليهود في مصر في عصر التناخ/ الميكرا وبناء عليه تقدمت الجبهة بقانون سحب الثقة من حكومة بن غوريون على خلفية رفض الحكومة مناقشة الموضوع (يهود مصر وخروجهم منها في عصر التناخ/ الميكرا وحقيقة عددهم)، وهو ما دفع بن غوريون للقول إن هذا ليس من اختصاص الكنيست لأنها لا تستطيع اتخاذ قرار بشأن مسائل تاريخية وإيمانية وعقائدية.
جدل الدين والدولة، صراع على وجه الدولة
معنى ما سبق أنَّ الكيان منذ لحظات تأسيسه الأولى يعيش أزمة العلاقة بين الدين والدولة في السياق السياسي/ الديني، وقد تنبهت التيارات الدينية على اختلاف مسمياتها مُبكرًا إلى ضرورة التعليم والتربية كأداة استمرار وجودي وتحصين الأبناء من لوثات الحداثة والعلمانية الصهيونية من جهة، ودفع المجتمع نحو التدين من جهة أخرى، لذلك اعتمدت هذه الأحزاب والحركات على اختلاف مسمياتها التعليم والتربية والدعوة، أدوات مُبكرة في جدل علاقاتها مع الحزب الحاكم ممثلًا بـ “مباي” ولجأت بعد انتخابات عام 1977 وفوز الليكود الممثل لليمين الإسرائيلي الجابوتنسكي الليبرالي، للتغلغل فيه ليصبح ليكود اليوم غير ليكود الأمس، وقد رافق هذه التحولات دخول الشرقيين إلى الحزب باعتبارهم أحد الخزانات الأهم للأصوات بالنسبة لحزب الليكود الذي حكم وشارك في الحكم منذ عام 1977.
عمليًا، جدل الدين والدولة رافق الكيان منذ لحظاته الأولى ولا يزال، وفي هذا الصدد يقول الكاتبان داني سيطمان وجدعون سابير في كتابهما المُشترك الدين والدولة في إسرائيل: “سؤال العلاقة بين الدين والدولة يتغشاه مشهدٌ خاصٌ بدولة إسرائيل برسم العلاقة الوطيدة بين اليهودية كدين وكقومية. فصل الدين عن الدولة في السياق الإسرائيلي عند “الآخر” معناه إلغاء الطابع اليهودي للدولة دينيًا وتحويلها إلى دولة كل مواطنيها. ص11″. لقد تنبهت الأحزاب الدينية إلى أهمية الشراكة في الحكومة ليس لتحصيل الأموال لمكوناتها التربوية والتعليمية والمجتمعية، بل ولسن القوانين وإحداث تغييرات عبر هذه القوانين في علاقة الدين والدولة، وقد ساعدها على ذلك منطق المصالح والصفقات الذي يميز السياسات الإسرائيلية الداخلية، سواء في تشكيل الحكومات واستمرارها أو علاقة المؤسسات الحاكمة والمجتمع المدني. وعلى سبيل المثال لا الحصر، نجح الحزب الديني الصهيوني في سنّ العديد من القوانين التي تلاحق المؤسسات الإسرائيلية ذات الطابع اليساري فيما يتعلق بحصولها على الأموال من الخارج، سواء كان هذا الخارج الاتحاد الأوروبي أو كيانات يهودية ليبرالية رافضة لسياسات اليمين الديني فيما يتعلق بالاستيطان وعلاقة الدين والدولة، وقابلت ذلك بسنِّ قوانين تسهل جلب الأموال من الخارج لأهداف وطنية وتهويدية وتعميق التعليم الديني، كما استغلت المال العام لتحقيق هذه الاختراقات في المجتمع، وقد سعى التيار الديني الصهيوني للتغلغل في المدن الساحلية، عكا وحيفا واللد والرملة ويافا، مدعومًا بمال حكومي من أجل وضع أسس داخل هذه المدن لتحقيق غايتين أساسيتين، تغلغل التيار الديني داخل المجتمعات اليهودية في تلكم المدن، والشغَب على الفلسطينيين أصحاب البلاد.
ما تقوم به هذه الحكومة عمليًا تبيان لهذا الصراع وتأكيد على عمقه وهو في حقيقته وجوهره صراع على وجه هذه الدولة: هل ستكون هذه الدولة يهودية ومن ثم ديموقراطية، أم العكس، وهو ما يتجلى راهنًا في التحولات التي يعمل الليكود على إدخالها على جوهر المبنى والفعل القضائي الإسرائيلي، مترافقًا مع تحولات في معنى الهوية والتراث اليهودي، تشرف عليها الحكومة عبر توافقات واتفاقيات ائتلافية تمَّت مع التيار الديني الصهيوني بمركباته المختلفة.