معركة الوعي (147) حول بعض ما جاء في كتاب “قدس أقداسنا/ قدس أقداسهم” ليتسحاق رايتر ودفير ديمنت (5)
حامد اغبارية
المقال الخامس والأخير من مناقشة ما جاء في كتاب “قدس أقداسنا/ قدس أقداسهم- الإسلام، اليهود وجبل الهيكل” للمستشرقيْن اليهودييْن يتسحاق رايتر ودفير ديمنت. ورايتر هو رئيس الجمعية الإسرائيلية لدراسات الشرق الأوسط ومحاضر في كلية القاسمي في باقة الغربية، وشغل في السابق نائب مستشار رئيس الحكومة للشؤون العربية في حكومات بيغن وشامير وبيرس. أما ديمنت فهو باحث مختص في سياسات الشرق الأوسط والإسلام. وقد صدر الكتاب عام 2020 باللغة الإنجليزية، وترجمه إلى العربية عمر واكد.
إن مجّرد علم المسلمين الأوائل- كما يقول مؤلفا الكتاب- بعلاقة اليهود بصّخرة بيت المقدس ليس دليلا على إقرار المسلمين بحقّهم في المكان. هذا لو فرضنا جدلا أن هذه العلاقة كانت قائمة أصلا من ناحية عقائدية. وقد قلت في المقال السابق إن علاقة اليهود العقائدية كانت بتابوت العهد وليست بالصخرة، إذ لا قدسية لصخرة بيت المقدس حتى عند المسلمين. فالعلم بأحداث التاريخ ليس إقرارا بأن كلّ ما وقع فيه هو حقٌ، وأن ما مارسه الناس أو عايشوه في ذلك التاريخ يأخذ قدسية تلقائية لمجرد وقوعه. فالمقدَّس يأخذ قدسيته بشروط معروفة. وأكثر من يعرف هذا اليهود قبل غيرهم، لكنّهم مارسوا التزوير، وبذلوا كل وسيلة لإضفاء قدسية على مواقع إسلامية بعد النكبة لإثبات حق ديني وتاريخي مزعوم. والنماذج كثيرة لا تكاد تحصى.
في صفحة 39 من الكتاب يورد المؤلفان نصا عن الطّبري، أورده في تاريخه، يزعمان من خلاله أن ” المؤرخين الإسلاميين يطرحون بإسهاب قصة عودة اليهود إلى بلادهم وبناء القدس من جديد، وذلك من خلال سرد قصة أخشويرش ومردخاي وإستر أن كورش أرسل بني إسرائيل ليقيموا هيكلهم الثاني. وقد سبق وذكرنا بإسهاب منهج الطبري في تاريخه. والمؤلفان يعلمان يقينًا أن في تاريخ الطبري من الإسرائيليات الكثير مما لا يُحصى. بل إنهما يذكران في ملاحظتهما أن الطبري أورد النص، الذي اعتبراه اعترافا إسلاميا بعودة اليهود إلى بيت المقدس، مأخوذٌ من “سفر إستر” نفسه. فكيف جعلا من نقل نص توراتي على منهج الطبري إقرارا؟ إن هذا من عجائب التدليس والتضليل! هذا مع لفت الانتباه إلى أن كورش (ملك فارس يومئذ) هو الذي أرسلهم- بحسب نصوصهم- ليقيموا هيكلهم الثاني.
إن كون هذه المسألة واقعة تاريخيّة حدثت في زمن كورش، غير اليهودي الوحيد الذي يقدّسه اليهود في أسفارهم الملحقة بأسفار التوراة الخمسة (في سفر إشعياء)، ليس لها علاقة بمزاعم حقهم العقدي في بيت المقدس والمسجد الأقصى المبارك وصخرة بيت المقدس، وإنما هي قرار سياسي بحت اتخذه كورش بعد أن سيطر على بابل وعلى منطقة ما بين النهرين وغيرها. ولم يكن اليهود وحدهم هم الذين أرسلهم كورش إلى المكان الذي أُخرجوا منه زمن السبي البابلي، وإنما شمل هذا القرار شعوبا أخرى غيرهم. وبذلك لم تكن لهم خصوصية تمنحهم حق عودة إلى أرض أُخرجوا منها لتميّزهم عن سائر شعوب الأرض، وهو ما يحاولون طوال الوقت التركيز عليه في كتاباتهم، بمن فيهم صاحبا هذا الكتاب الذي نناقشه.
يقول الباحث صابر زغلول في كتابه (كورش الأكبر): “الحقيقة أن كورش عندما حرر اليهود، لم يكن يفعل هذا عن حبّ خاص لليهود، بل كان يتبع المبادئ التي يؤمن بها؛ وهي العدل والتسامح والحرية الدينية، فقد كان كورش يطبق هذه المبادئ مع كل الشعوب، حتى الوثنية منها، وليس مع اليهود فقط…”.
ولعله من المفيد جدا ومن المهم للغاية أن نذكر هنا إلى أن الإسرائيليين – لإعجابهم بكورش- قد أصدروا طابعا يحمله نقش صورته (المتخيّلة). فقد اعتبروه محرِّرا، ومدافعا عن حقوقهم، وأوردوا في أكثر من مكان في ملحقات توراتهم الحاضرة بين أيدينا اليوم، نصوصا تشير إلى أنه كان من الموحّدين، رغم أنه لم يعتنق اليهودية. لكنّ هذه الرواية بخصوص عقيدة كورش جاء من ينقضها، كما نقض عدالته وإنسانيّته التي رسم لها الإسرائيليون صورة وردية. وهذا ما فعلوه مثلا – في أيامنا – مع الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، الذي اتخذت إحدى المنظمات اليهودية قرارا بإصدار عملة خاصة تحمل صورته، كونه أقر بالقدس عاصمة موحدة لهم ونقل سفارة بلاده إلى القدس، رغم علمهم بفساده وكذبه ودجله. وقد اعتبروا ما فعله ترامب تحقيقا لنبوءة من زمن كورش!!
أما بخصوص قصة عدالة كورش وإنسانيّته ودفاعه عن الشعوب المقهورة فقد ذكر مؤرخون أن هذه كانت مجرد دعاية لتزيين صورته لمجرد أنه سمح لبني إسرائيلي بالعودة من السبي البابلي. وقد ذكر مؤرخون أن عهد كورش على عكس الصورة التي رسمها له مَن لهم مصلحة في تزيينها. فقد شهد عصره تدمير المعابد ونهب عواصم المدن المفتوحة وقتل كثير من سكان البلاد التي ضمها لإمبراطوريته خاصة بين النهرين. والعجيب المثير للتساؤل هو أن كورش يعظّمه الإيرانيون (الفرس) كذلك باعتباره مؤسس إمبراطورية فارس الكبرى. فيا للعجب!!
وقد ذكرت روايات تاريخيّة أن كورش لم يكن موحِّدا، بل كان وثنيا. وهذا مسطور في إسطوانته الحجرية التي ما تزال لها بقايا إلى يومنا هذا. فقد كتب فيها كورش أنه أعاد كل الآلهة إلى المعابد. ويقول: “يا ليت جميع الآلهة التي أعدتُها إلى مقامها في مدنها المقدسة، تطلب من أجْلي العمر الطويل من بيل ونابو..”. ورغم ذلك إلا أن اليهود جعلوا منه مسيحا للرب، لمجرد أنه أعادهم من السبي. فقد كتبوا في سفر إشعياء (45:1) “هكَذَا يَقُولُ الرَّبُّ لِمَسِيحِهِ، لِكُورَشَ الَّذِي أَمْسَكْتُ بِيَمِينِهِ”. ثمّ ينسبون إليه في سفر “أخبار الأيام” الثاني (36:23) أنه قال: “هكَذَا قَالَ كُورَشُ مَلِكُ فَارِسَ: إِنَّ الرَّبَّ إِلهَ السَّمَاءِ قَدْ أَعْطَانِي جَمِيعَ مَمَالِكِ الأَرْضِ، وَهُوَ أَوْصَانِي أَنْ أَبْنِيَ لَهُ بَيْتًا فِي أُورُشَلِيمَ”. وهذه رواية أقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقة. فإذا كانت كتاباتهم تؤكد أنه لم يعتنق اليهودية، وإن كان موحّدا كما يقولون، فلماذا اختاره الرب ليوصيه بأن يبني له بيتا في أورشليم؟ ثم أيَّ رواية نصدّق؟ هل نأخذ بما قاله كورش عن نفسه في تلك الإسطوانة الشهيرة، أم ما ورد في أسفارهم التي ثبت بالدليل التاريخي أنها من كتاباتهم وتأليفهم وليست وحيًا من السماء، وقد وضعها أحبارهم بعد السبي البابلي؟
بل إن كورش يشير في تلك الاسطوانة إلى أن “مردوخ” إله بابل اختاره لقيادة موكبه (موكب مردوخ) ونادى به حاكما لكلّ العالم. فهل كان كورش موحّدا كما يزعمون؟ أم أنه كان وثنيا إلى درجة أنه حفر أخاديد النار وألقى فيها كل الذين رفضوا أن يسجدوا لآلهة الذهب التي صنعها لهم، وألقى بالنبيّ دانيال في جبّ الأسود، وهو النبي الذي لا يعترف اليهود بنبوّته؟
ثمّ من حق المرء أن يسأل: كان نبوخذنصر قد سبا بضعة آلاف من اليهود إلى بابل، ولكنّ الآخرين نزحوا إلى بلاد فارس. وهؤلاء رفضوا العودة إلى بيت المقدس زمن كورش، واختاروا البقاء في بلاد فارس. فماذا فعل كورش معهم؟ لقد قتلهم وأبادهم. وهذا بنص سفر “إستر” نفسه، الذي جاء فيه أن كورش أبادهم لأنهم شعب مُريب ومنعزل ولا يدينون بدين الملك كورش ولا بدين أحشويرش: “فَطَلَبَ هَامَانُ أَنْ يُهْلِكَ جَمِيعَ الْيَهُودِ الَّذِينَ فِي كُلِّ مَمْلَكَةِ أَحَشْوِيرُوشَ، شَعْبَ مُرْدَخَايَ” (استر- 3:8).
في صفحة 44 من الكتاب يقول المؤلفان إن السيوطي ذكر رواية تربط بين هيكل سليمان وقصة الإسراء والمعراج. وفيها: “قدم عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- بيت المقدس وعسكر في طور زيتا ثم انحدر فدخل المسجد من باب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلما استوى قائما نظر يمينا وشمالا ثم قال: هذا والذي لا إله إلا هو مسجد سليمان بن داود الذي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أسري به إليه. ثم أتى (أي عمر) غربيّ المسجد فقال لي: نجعل لمسجد المسلمين ههنا مصلى يصلّون فيه”. وكأني بالمؤلفيْن يريدان أن يثبتا أن عمر رضي الله عنه يعترف بوجود هيكل سليمان. وهذا من التضليل الظاهر الذي لا ينطلي على كل ذي لبّ. فالنص يتحدث عن مسجدٍ وليس عن هيكل. ويتحدث عن أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبرهم أنه أسري به إليه. وقوله: “هذا مسجد سليمان بن داود” دليل على أن المسجد واحد، وهو المسجد الأقصى الذي عمره سليمان بن داود عليهما السلام، والذي أسري إليه بالنبي صلى الله عليه وسلم فليس هناك غيره. فهل يخالف عمر رضي الله عنه نصّ الآية الأولى في سورة “الإسراء” من أجل عيون المضللين والمزوّرين والمدلسين؟
أكتفي بهذا القدر من مناقشة ذلك الكتاب المليء بالأضاليل، والذي يحاول مؤلفاه، عبثًا، إثبات حقٍّ عقدي لليهود في بيت المقدس والمسجد الأقصى المبارك، بزعم أن روايات إسلامية تدعم هذا الادّعاء. بينما قليلٌ من التأمل والتدقيق وفهم سليم للنصوص وخلفياتها يؤكد أنْ ليس في الكتاب ما يثبت هذه المقولة من قريب أو بعيد. (انتهى).