هل تشكل مضاعفة ميزانية الدفاع اليابانية تهديدا للصين وروسيا؟
وثيقة استراتيجية الأمن القومي اليابانية تسمح لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية للجيش بالقيام بـ”ضربات مضادة” ضد قوى معادية
ـ ميزانية الدفاع اليابانية ستتضاعف من 40 مليار دولار في 2022 إلى 80 مليار دولار في 2027
ـ واشنطن ترغب في أن تتحول اليابان إلى قوة ردع عسكرية للصين وروسيا في الشرق الأقصى
أثارت مضاعفة ميزانيتة اليابان الدفاعية وتغيير عقيدتها العسكرية قلق جيرانها شرقي آسيا، خاصة وأن ذاكرة المنطقة مثخنة بجراح الحروب التي خاضها الجيش الياباني في النصف الأول من القرن الماضي.
تشعر اليابان بتهديد أكبر من كوريا الشمالية والصين، واحتمالية اندلاع حرب في شرق آسيا بين الكوريتين أو بين الصين وتايوان، ناهيك عن تنازع السيادة حول جزر في المنطقة سواء بين اليابان وروسيا أو بين الصين واليابان بل وحتى بين الأخيرة وكوريا الجنوبية.
فمنطقة شرق آسيا والمحيط الهادئ حبلى بالأزمات في ظل وجود 3 قوى نووية (الصين وروسيا وكوريا الشمالية) بالإضافة إلى الولايات المتحدة، المتواجدة بقواعدها في اليابان وكوريا الجنوبية.
والحرب الروسية في أوكرانيا، منحت درسا لليابان مفاده أن إمكانية لجوء القوى الكبرى لاستعمال القوة العسكرية بدل الحوار مسألة لم تعد مستبعدة.
وإذا انتصرت روسيا في أوكرانيا، فإن احتمال شن الصين عملية عسكرية للسيطرة على تايوان متوقعة بشدة.
بل إن مدير المخابرات الأمريكية وليامز بيرنز، قال في مقابلة مع قناة “بي بي آس” المحلية، ديسمبر/كانون الأول، “نعلم أنه (الرئيس الصيني) أمر أيضا قيادته العسكرية بالاستعداد بحلول عام 2027 لشن حرب” للسيطرة على تايوان.
وهذا ما يدفع اليابان للقلق، خاصة وأن صواريخ كوريا الشمالية الباليستية تحلق فوق سمائها وتسقط في منطقتها الاقتصادية البحرية، والقوة العسكرية الصينية بما فيها النووية تتعاظم، والنزعة الروسية للتوسع تتجلى في أوكرانيا.
بل إن كلا من الصين وروسيا تنظمان منذ أيام مناورات في بحر الصين الشرقي بالقرب من مدخل مضيق تايوان، توصف بأنها ضخمة ويشارك فيها عشرات الآلاف من الجنود، وتستهدف تقويض نفوذ الأسطول الأمريكي في المنطقة.
بينما لم تعد الولايات المتحدة الحليف الموثوق الذي بإمكانه أن يحمي اليابان من أي عدو، خاصة إذا كان سيعرضها ذلك لخوض حرب نووية لا منتصر فيها.
ـ تغيير العقيدة العسكرية
ما يقلق الصين وروسيا والكوريتين ليس فقط مضاعفة ميزانية الدفاع اليابانية من نحو 1 بالمئة إلى 2 بالمئة من الناتج الإجمالي الخام لثالث أكبر اقتصاد في العالم في غضون عام 2027، بل تغيير العقيدة العسكرية اليابانية من عقيدة دفاعية إلى عقيدة هجومية تسعى لامتلاك صواريخ باليستية بإمكانها ضرب العمق الصيني.
حيث تصف طوكيو الصين بأنها “تحدٍ إستراتيجي غير مسبوق” لأمنها القومي، وعبرت عن قلقها إزاء الوضع الأمني الإقليمي “الخطير بشكل متزايد” والمتدهور “بسرعة غير مسبوقة”.
وهذا التهديد دفعها لتخصيص 320 مليار دولار ما بين 2023 و2027، لتعزيز قدراتها القتالية، بشكل يمكنها من رفع ميزانية الدفاع من 51 مليار دولار في 2023، إلى أكثر من 80 مليار دولار في 2027، بعدما كانت 40.2 مليار دولار في 2022، ما يجعلها تتفوق على روسيا والسعودية من حيث مخصصات الدفاع ويضعها في المرتبة الثالثة بعد الولايات المتحدة والصين.
لكن الأهم من ذلك أن اليابان قررت امتلاك أسلحة هجومية من طائرات حربية من الجيل الخامس (إف 35) وصواريخ ذات مدى يطال العمق الصيني ويغطي مساحة كوريا الشمالية ويصل جنوب شرق روسيا، على عكس ما تنص عليه عقيدتها العسكرية.
فالمادة التاسعة من الدستور الياباني تنص على “التخلى إلى الأبد عن الحرب”.
ولذلك لا تملك اليابان جيشا بالمعنى التقليدي، وإنما ما تسميه “قوات الدفاع الذاتي”، لكن ذلك لم يمنعها من تشكيل قوات قوية صنفت في المرتبة الخامسة عالميا، وفق مؤشر “غلوبل فاير باور” الأمريكي.
وتغيير العقيدة القتالية “للجيش الياباني” لم تكن وليدة اليوم، ولكن تصاعدت مع وصول شينزو آبي، إلى رئاسة الوزراء للمرة الثانية في 2012، رافعا معه شعار “استعادة اليابان القوية” اقتصاديا وعسكريا.
لكن “آبي”، قتل في يوليو/تموز 2022، وبوفاته تصاعدت فكرة استعادة قوة اليابان “الاقتصادية والعسكرية” بدل أن تذبل وتموت.
إذ إن اليابان كانت قوة عسكرية كبيرة في شرق آسيا في النصف الول من القرن الماضي، وتمكنت من غزو شبه الجزيرة الكورية (1910-1945)، واحتلتها قبل ذلك في الفترة ما بين 1592 و1598، كما غزت إقليم منشوريا الصيني (1937 -1945)، وقبلها الحرب ضد روسيا (1904-1905).
لكن هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية (1939-1945) دفعها لحل الجيش الإمبراطوري الياباني، والتخلي عن طموحاتها العسكرية التوسعية، وتشكيل “قوات الدفاع الذاتي”، التي تعهدت بعدم خوض أي حرب، رغم أنها قدمت دعما لوجستيا لسول في الحرب الكورية (1950-1953) وتدعم أوكرانيا في حربها ضد روسيا من خلال المشاركة في العقوبات الغربية على موسكو.
ـ قلق صيني وترحيب أمريكي
تدرك الصين جيدا أن تغيير العقيدة العسكرية اليابانية يستهدفها بالدرجة الأولى، أكثر من أي بلد آخر، لذلك عبرت عن قلقها إزاء “الزيادة الكبيرة في ميزانية الدفاع اليابانية”.
وحاولت الصين تهوين صعودها العسكري وتصاعد قوة أسطولها البحري، واعتبرت أن “اليابان تبالغ في وصف التوترات الإقليمية سعيا وراء تحقيق اختراقات عسكرية”.
واعتبرت خطوة اليابان “خطيرة، وتثير شكوكا قوية بين جيرانها الآسيويين وفي المجتمع الدولي حول ما إذا كان يمكنها الالتزام بسياسة دفاعية موجهة حصرا إلى الدفاع ومسار التنمية السلمية”.
روسيا هي الأخرى، لم تخف انزعاجها من تغيير اليابان لعقيدتها العسكرية، وقالت خارجيتها إن “اليابان باتت الآن على طريق حشد غير مسبوق للقوة العسكرية”.
وحذرت روسيا اليابان من أن عودتها إلى “العسكرة الجامحة” ستثير حتما تحديات أمنية جديدة في منطقة آسيا والمحيط الهادي.
الخارجية الروسية حذرت أيضا “من خطر تجنب طوكيو الواضح للاعتراف بنتائج الحرب العالمية الثانية، التي تشكل أساس النظام العالمي الحديث”.
كوريا الشمالية لم تتخلف عن ركب المنتقدين للاستراتيجية الأمنية الجديدة لليابان، وترى أن ذلك سيغير “جذريا الظروف الأمنية شرقي آسيا”، واصفة هذه الخطوة بـ “الخاطئة والخطيرة للغاية”، مهددة باتخاذ “تدابير حاسمة”.
واعتبرت وثيقة إستراتيجية الأمن القومي الياباني، أن التجارب الصاروخية التي تقوم بها كوريا الشمالية تشكل “تهديدا خطيرا ووشيكا لليابان اليوم أكثر من أي وقت مضى”.
والمفارقة أن حتى كوريا الجنوبية، حليفة اليابان في المنطقة، احتجت على اعتبار اليابان أن جزر دوكدو (يسميها اليابانيون تاكيشيما) المتنازع عليها، جزء من أراضيها.
بينما كانت الولايات المتحدة أكثر الدول تحمسا لتغيير اليابان عقيدتها العسكرية وتبني سياسة “الضربات المضادة” وزيادة ميزانيتها الدفاعية، لأن ذلك من شأنه ردع التنين الصيني، ومواصلة عملية التطويق الاستراتيجي له.
كما أن “جيش اليابان القوي” سيكون مصدر إزعاج بل تهديد للخاصرة الرخوة لروسيا في أقصى الشرق، في الوقت الذي تلقي موسكو بثقلها العسكري في حرب أوكرانيا بأقصى الغرب، ما سيجعلها بين فكي كماشة إذا قررت طوكيو استعادة جزر الكوريل من روسيا، حال رأت منها ضعفا أو انهيارا في الجبهة الأوكرانية.
وقوة اليابان ستساهم في احتواء “حصان آسيا الهائج”، وردع أي تحرك لكوريا الشمالية ضد جارته الجنوبية، أو أي تهديد للمنطقة.
فواشنطن تريد أن يكون لها حليف إقليمي قوي شرق آسيا ليخوض بالنيابة عنها حروبا بالوكالة ضد أعدائها في المنطقة.
واليابان يمكن أن تلعب دور “شرطي أمريكا” في الشرق الأقصى، بل تثبيت واستنزاف قوة أكبر تهديدين استراتيجيين لواشنطن، المتمثلين في الصين وروسيا.