لم أكن أعلم أني مليونيرٌ
الشيخ كمال خطيب
إننا نعيش في زمان تغمرنا فيه نعم الله سبحانه من كل جانب، فنحن نتقلب بين هذه النعم الكثيرة والآلاء العظيمة، حتى أننا ولسهولة نيلها والحصول عليها، فإننا ننسى المنعم المتفضل سبحانه، بل لعل كثيرين يعيشون شعور أن هذه النعم هي من نتاج عملهم وبذلهم وجهدهم وليست من عظيم فضل الله عليهم.
إن عدم معرفة وعدم الإقرار بفضل المنعم سبحانه، فإن هذا سيقودنا إلى جحود المنعم وإنكار أن له علينا حقوقًا لا بد أن نؤدّيها. هذه الحقوق التي قسّمها ابن القيم رحمه الله تعالى إلى قسمين: الأول، القيام بأمر الله ونهيه، والثاني شكر نعمه سبحانه. فهو يطالبنا بشكر نعمه والقيام بأمره سبحانه. ليس معناه الاكتفاء والرضا عن النفس بترك المحرمات، بل لا بد من الالتزام وفعل وتنفيذ ما أمر سبحانه به كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، ونصرة الله ورسوله وكتابه. وأقل الناس دينًا وأمقتهم عند الله من ترك فعل الواجبات وإن زهد في الدنيا كلها كما قال ابن القيم.
إننا نسمع من المسلمين من يقول، أنا لا أكذب ولا أسرق ولا أزني ولا آكل الربا، وفقط أنا لا أصلي. إنه يظن جهلًا أن ترك تلك المحرمات تغني عن فعل الواجبات والفرائض التي أمر الله بها بل هي ركن من أركان الإسلام.
وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها
فبعد ومع القيام بأمره سبحانه فلا بد أن نشكر نعمه وآلاءه وعطاياه، وهي لا تعد ولا تحصى، ومنها كما ذكر ذلك الدكتور مجدي الهلالي في كتابه الرائع: (حطم صنمك وكن عند نفسك صغيرًا):
– نعمة الإيجاد من العدم: قال سبحانه: {هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا*إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا *إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} آية 1-3 سورة الإنسان. إنه سبحانه الذي خلقنا في أحسن تقويم :{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} آية 4 سورة التين. خلقنا بلا عيوب ولا نواقص، فأعطانا عينًا ترى، وأذنًا تسمع، وعقلًا يفكر، وقلبًا ينبض، ورئةً تستنشق الهواء، وكليتين تنقيان الدم من السموم، ويدين نمسك بهما ورجلين نمشي بهما، وفمًا وأسنانًا ولسانًا وجهاز الامتصاص والهضم وإخراج الفضلات واللمس والشم وغير ذلك كثير. وإذا أردت أن تعرف قيمة كل نعمة فأغمض عينيك لترى قيمة نعمة البصر، وسد أذنيك لتعرف نعمة السمع، واذهب إلى المشافي لتجد المشلول والمبطون بل لتجد قائمة بلا نهاية لأشخاص فقدوا نعمة أنت ما تزال تنعم بها.
– نعمة الحفظ لهذه الأعضاء والجوارح: وتسخيرها لك مقابل من حرموا من هذه الجوارح أو أنها موجودة ولكنهم عاجزون عن استعمالها، كعجز من أصيب بجلطة دماغية في أن يستعمل لسانه أو يده أو رجله. وليس فقط نعم الجوارح وتسخيرها لنا، بل إنه سخّر الأرض والشمس والرياح والليل والنهار {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ*وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ۚ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} آية 33-34 سورة إبراهيم.
– ومن نعمه سبحانه نعمة أنه خلقنا مسلمين، وأنه هدانا للإسلام فنجّانا من أن نعبد الأصنام أو نعبد البقر أو نعبد بشرًا مثلنا، وأنه نجّانا من الزنا والسرقة والخمر والربا والمخدرات وكل الموبقات التي تهين الإنسان وتخدش كرامته.
– ومن نعمه سبحانه نعمة الأمن والستر { فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ*الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} آية 3-4 سورة قريش. وإذا أردت أن تعرف قيمة هذه النعمة فانظر إلى بيوت ومجتمعات غرقت بالدم والعنف، وتعيش هاجس قلق غياب الأمن والطمأنينة.
ولأن هذه كلها وأكثر منها هي من نعمه سبحانه، فلا بد أن نشكره عليها من أجل دوام بقائها وعدم زوالها وهذا حقه سبحانه علينا، وقد قال لموسى: {قَالَ يَٰمُوسَىٰٓ إِنِّى ٱصْطَفَيْتُكَ عَلَى ٱلنَّاسِ بِرِسَٰلَٰتِى وَبِكَلَٰمِى فَخُذْ مَآ ءَاتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ ٱلشَّٰكِرِينَ} آية 144 سورة الأعراف. وقال سبحانه: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} آية 78 سورة النحل.
الدين المؤجل والشكر المطلوب
لأنه من شروط دوام النعم وعدم زوالها، فلا بد من شكر المنعم الله سبحانه، ولو افترضنا أن كل نعمة من نعم الله علينا يستوجب شكرها بالسجود ساعة واحدة شكرًا لله سبحانه، وإذا قيل لنا أنه إما السجود ساعة وإما تعطل وتوقف هذه النعمة، بمعنى أن يتوقف هذا القلب عن النبض وهو لم يتوقف من يوم أن خلق الله كل واحد منا، وأن العين لا تبصر، والكبد لا تعمل، والكلية لا تنقي السوائل، والنخاع لا يفرز خلايا الدم، وخلايا الجسم لا تمتص السكر، والبول سيحبس، والدم لا يتأكسد، والغدد توقف إفرازاتها، وتتعطل حاسة السمع والبصر واللمس والشم والذوق، فلو أن كل نعمة تحتاج إلى ساعة سجود الشكر لبقينا العمر كله ساجدين لله ولا نؤدي حقوق الله علينا لأن نعمه لا تعد ولا تحصى.
ولو أن شخصًا استدان من آخر مليون شيكل أو مليون دولار، وحينما جاء وقت السداد بدأ الرجل المدين وقد عمل واجتهد جدًا ليسد مبلغًا متواضعًا كل شهر، فهل سيأتي المدين للدائن صاحب المليون برأس مرفوع وإعجاب بنفسه أم أنه سيشعر بالتقصير ويطلب من صاحب المال أن يسامحه على تقصيره، وإذا قبل عذره فإن هذا من حسن خلقه وعظيم فضله ولله المثل الأعلى. فإذا كان هذا بدين إنسان لإنسان يظلّ قليلًا مهما عظم، فكيف بدين الله علينا الذي لا يعد ولا يحصى.
مع العلم أن صاحب الدين عادة فإنه عندما يرى استهتار المدين وتسويفه وعدم مبالاته وكثرة وعوده بالسداد، فإن هذا يغضب صاحب الدين ولا يفكر بإسقاط دينه أو التنازل ومسامحته ولو باليسير منه، بينما إذا بدأ المدين بسداد دينه ويجتهد في ذلك وإن كانت دفعات متواضعة ومتباعدة لكنه لا ينسى فضل وإحسان صاحب الدين، فإن هذا قد يكون سببًا ليس في تحمل صاحب الدين ذلك التأخير وإنما قد يسامحه ويسقط عنه دينه.
ولله المثل الأعلى، فإن الفارق كبير من يجحد نعم الله عليه ولا يشكرها بالطاعات والقربات، وبين من يجتهد بالطاعات ويظلّ يشعر بالتقصير في حق الخالق سبحانه، فإن الله عز وجل يتقبل منه طاعاته ويغفر له زلّاته {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} آية 60 سورة المؤمنون. {وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} آية 133 سورة آل عمران.
نحن في قائمة أصحاب الملايين ولا نعرف
يحكى أن رجلًا شكى الفقر وأنه لا يملك من حطام الدنيا شيئًا، فقال له آخر: هل تقبل أن يقطع أحدهم أصبعك ويعطيك ألف دينار؟ قال: لا، قال: إذن أنت تملك عشرين ألف دينار بقيمة أصابع يديك ورجليك. قال: هل تقبل أن ُتقطع يدك وتعطى خمسين ألف دينار؟ قال: لا، قال: إذن أنت تملك مائة ألف دينار ثمن كلتا يديك. قال: هل تقبل أن ُتُقلع عينك مقابل مائة ألف دينار؟ قال: لا، قال: إذن أنت تملك مائتي ألف دينار ثمن كلتا عينيك، وراح يعدد له جوارحه وأنها نعم ثمينة بل لا تقدّر بثمن، ثم قال له كيف تشكو الفقر إذن؟!
وإنه هارون الرشيد الذي قال لأحد جلسائه من الصالحين: عظني، قال الرجل للخادم: هات كأس ماء ليشرب أمير المؤمنين، فلما جاء بكأس الماء قال: يا أمير المؤمنين لو أنك كنت في صحراء وأصابك العطش بكم تشتري هذه الكأس لتشرب وتروي عطشك؟ قال: أدفع نصف ملكي. قال: فإذا شربتها ولم تستطع إخراجها وأصابك إحصار وإمساك البول، فماذا وكم تدفع لعلاج مرضك وإخراج الماء من المسالك البولية ليذهب عنك ذلك الألم والوجع الشديد؟ قال: أدفع ملكي كله. قال: أرأيت كيف أن ملكك كله لا يساوي شربة ماء فبكى هارون الرشيد!!!
وعن جابر رضي الله عنه مرفوعًا عن جبريل عليه السلام: “أن عابدًا عَبَد الله على رأس جبل في جزيرة في البحر خمسمائة سنة، ثم سأل ربه أن يقبضه ساجدًا. قال جبريل: فنحن نمر إذا هبطنا وإذا عرجنا ونجد في العلم أنه يبعث يوم القيامة فيوقف بين يدي الله عز وجل، فيقول الرب عز وجل: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي، فيقول العبد: يا رب بل بعملي، يفعل ذلك ثلاث مرات، ثم يقول الله للملائكة قايسوا عبدي بنعمتي عليه وبعمله فيجدون أن نعمة البصر قد أحاطت بعبادته خمسمائة سنة وبقيت نعمة الجسد كله فيقول: أدخلوا عبدي النار، فيجرّ إلى النار فينادي: برحمتك أدخلني الجنة، برحمتك أدخلني الجنة فيدخله الجنة. قال جبريل: إنما الأشياء برحمة الله يا محمد”.
نعم إن كل أعمالنا وطاعاتنا لن تفي بحق شكر نعمة واحدة من نعم الله علينا وستبقى سائر النعم لا يقابلها شكر ولا طاعة فنصبح ساعتها نستحق عذاب الله كما قال الدكتور مجد الهلالي: “ولو أنه سبحانه عذّب أهل سماواته وأهل أرضه لتقصيرهم لعذّبهم وهو غير ظالم لهم”.
اللهم عاملنا بإحسانك لا بعدلك
إنهما طريقتان يحاسب ربنا جل جلاله بهما عباده بالعدل أو بالإحسان.
أما المحاسبة بالعدل كما يقول ويشبه ذلك الدكتور مجدي الهلالي كمن يدخل على ربه سبحانه يحمل دفترًا وسجلّا قد دوّن فيه كل أعماله وطاعاته وهو يفاخر بها ويستكثرها ويطلب من ربه سبحانه أن يعوّضه عنها بالجنة. إنه في مثل هذا الموقف يطالب الله أن يحاسبه بالعدل أي ثواب بدل طاعات ظن أنها كثيرة وهو بذلك سيخسر خسرانًا عظيمًا.
بينما المحاسبة على طريقة الإحسان فهي بدخول العبد على ربه معلنًا الإفلاس التام، وأن كل ما عمله وإن كان كثيرًا لا يساوي نعمة واحدة من نعم الله عليه، ويشعر بالخجل من تقصيره ويتوسل إلى الله أن يدخله الجنة برحمته، وأن لا يناقشه الحساب. إنه بذلك يستحق أن يعامله الله على طريقة الإحسان فيعفو عنه ويغفر له ويدخله الجنة.
وهكذا كان حال الصالحين دائمًا أن يستكثروا ذنوبهم وأن يستقلوا طاعاتهم. وها هو سيدنا عمر رضي الله عنه ومع جليل ما قدمه للإسلام رضي الله عنه، إلا أنه سُمع وهو في النزع يقول لسيدنا عثمان رضي الله عنه: ويلي وويل أمي إن لم يغفر الله لي قالها ثلاثًا ثم قضى رضي الله عنه. وورد في طبقات بن سعد أن العباس عم النبي ﷺ كان خليلًا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلما أصيب عمر جعل يدعو الله أن يريه عمر في المنام، فرآه بعد حول “بعد سنة” وهو يمسح العرق عن جبينه فقال: ما فعلت؟ قال: هذا أوان فرغت وإن كان عرشي ليُهَد لولا أني لقيته رؤوفًا رحيمًا.
هم القوم لا يشقى جليسهم
وإن من أعظم أسباب تذكرك نعم الله تعالى عليك حتى تظل دائمًا تشعر بالتقصير بأن تنظر إلى أهل البلاء، فما من مرض أو عاهة في إنسان تراها إلا وتذكرك وأنت لم تصب بمثلها بنعمة أنعمها الله عليك. ولذلك كان الدعاء عند رؤية أهل البلاء أن يقول المسلم: “الحمد لله الذي عافاني مما ابتلى به كثيرًا من خلقه”. ولا ترى أحدًا يقيم على معصية وأنت قد سلّمك الله منها إلا وتتذكر أنها نعمة أنعمها الله عليك بأن عصمك من الذنب والمعصية.
وإن من أهم وسائل التعرف على حق المنعم أن تجالس من يذكّرونك بفضائل ونعماء الله عليك كما كان يفعل الفضيل بن عياض وسفيان بن عيينة، وكانا يجلسان حتى الصباح يتذكران النعم ويقول سفيان: أنعم الله علينا في كذا وأنعم علينا في كذا وفعل بنا كذا وكذا. إنها مجالس بها يباهي الله ملائكته. فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: “إن لله سيّارة من الملائكة يطلبون حُلق الذكر، فإذا أتوا عليهم حفّوا بهم، ثم بعثوا برائدهم إلى رب العزة تبارك وتعالى فيقولون: ربنا أتينا على عباد من عبادك يعظّمون آلائك ويتلون كتابك ويصلّون على نبيك محمد ﷺ ويسألونك لآخرتهم ودنياهم، فيقول تبارك وتعالى: غشّوهم رحمتي. فيقولون: يا رب إن فيهم فلانًا الخطاء، إنما اغتبقهم اغتباقًا، فيقول تبارك وتعالى: غشّوهم رحمتي فهم القوم لا يشقى فيهم جليسهم”.
اللهم اجعلني من الشاكرين لنعمائك الراضين بقضائك. اللهم لا تعاملني بما أنا أهله وعاملني بما أنت أهله، أنا أهل الذنوب والخطايا وأنت أهل التقوى وأهل المغفرة يا رب العالمين.
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا
رحم الله قارئًا دعا لنفسه ولي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.