مُفَرّق الأحبة
ليلى غليون
لا أبالغ لو قلت إنَّ أقصر رحلة من رحلاتنا العادية التي نقوم بها بين الفينة والأخرى، تستقطب من تفكيرنا واهتمامنا وأوقاتنا واستعداداتنا الشيء الكثير، حتى ولو كانت ليوم واحد نذهب فيه مع أسرنا وأبنائنا أو مع الأصحاب والمعارف، لتكون الاستعدادات على أوجها من طعام وشراب وعصائر وفواكه وغيرها من الحاجيات الكثيرة التي توحي للناظر لكثرتها بأننا ننوي السفر لأيام عدة لا ليوم واحد.
إن السفر والسياحة في الأرض والتمتع بنعم الله تعالى بما لا يغضب الله عز وجل، ليس فيه حرج ولا جناح، يقول الله تبارك وتعالى: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق …) سورة الأعراف. وخروج الأسر والأصحاب لقضاء أوقات ممتعة على بساط الطبيعة وبين أحضانها والاستعداد الجيد لهذا الأمر للترويح عن النفس لا ينكره شرع ولا يختلف عليه اثنان، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (يا حنظلة ساعة وساعة) فمصاعب الحياة ومشاكلها وكثرة همومها وضغوطاتها، يتطلب كل ذلك أن تستروح النفس وتبحث لها عن مساحة وفسحة تبث فيها بعض الهدوء والسرور والطمأنينة.
ولكن السؤال الذي يهز أوتار القلب ويدغدغ خلجات النفس ويجعل الواحد منا تضطرب أنفاسه ونبضات قلبه ليقف وقفة لا يبرح مكانه، وقفة مع ذاته لسان حاله يقول: إذا كانت رحلة عادية ليوم واحد أو بضعة أيام تتطلب منا كل هذه الاستعدادات، ونصرف لها كل هذه الاهتمامات والطاقات، فماذا أعددنا لرحلة طويلة لا يعلم مداها إلا الله؟ وأي الزاد أعددنا لهذا السفر؟ وأي التحضيرات نقوم بها لنجتاز طريقنا بسلام؟ وأي الاستعدادات حرصنا عليها ليوم النشور وما يحويه من أهوال، ليوم (يصبح الولدان فيه شيبا) يوم (كان شره مستطيرا) يوم (واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون).
ألم يأمرنا ربنا عز وجل بالاستعداد والعمل لمَّا قال جل جلاله: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين).
ألم يأمرنا نبينا صلى الله عليه وسلم بالعمل والمبادرة لمَّا قال: (بادروا بالأعمال.. فتنًا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا يبيع دينه بعرض من الدنيا).
فعن عمر رضي الله عنه قال: (كنت جالسًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل من الأنصار فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أي المؤمنين أفضل؟ قال أحسنهم خلقًا، قال: فأي المسلمين أكيس قال: أكثرهم للموت ذكرًا وأحسنهم لما بعده استعدادًا أولئك الأكياس).
فها هو الموت هادم اللذات ومفرق الجماعات والأحبة يمضي في طريقه ولا يتوقف إلا أن يشاء الله رب السماوات والأرض، (كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة) يموت الصالحون ويموت المفسدون، يموت المتكبرون والطغاة ويموت المستضعفون والمقهورون، يموت كل عزيز وذليل، وغني وفقير (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ).
إنه الموت لا تمنعه الحصون ولا البروج المشيدة (أينما تكونوا يدرككم الموت) ولا تحول دونه الحجاب ولا ترده الأبواب، ولا يفرق بين الصغير والكبير ولا يتأخر عن موعده لحظة واحدة ولا يتقدم (إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون).
فإذا كان ذلك كذلك، أليس الأولى والأهم أن نكون على استعداد دائم للقاء وجه ربنا وليوم لا بد أنه سيطالنا؟ فكم منا من مقصر، وكم منا من عاص ومذنب ومرتكب للكبائر والموبقات، وكم منا من ظالم وقاطع رحم وعاق لوالديه وآكل حقوق غيره، وكم.. وكم…وكم.. فيا من فرطت في جنب الله وقصرت في حقوق ربك، يا من فرطت بأداء الصلاة أو أي فرض من فرائض دينك، ارجع وتب ولا تتردد واعلنها عودة صادقة إلى الله واصطلح مع مولاك ينصلح حالك، وأنت يا من ضاعت أيامك وحياتك سدى في صحاري الحياة وتشبثت بأوهامها وسرابها، يا من تتذبذب فيك الإرادة وترتطم بجدار صلب من التسويف والتأجيل وتقولين: أريد أن أعيش حياتي، وأستمتع بشبابي فلا زلت صغيرة ولا يزال في الوقت متسع وبعدها سأصلي، سأقرأ القرآن، سأرتدي الحجاب، سأقوم بكل الفرائض، لا يا صاحبتي فليس في الوقت متسع، وهل تدرين متى يحين الأجل، ربما بعد أعوام أو أيام أو لحظات فكيف تستسلمين للتسويف وتخضعين للتأجيل وطول الأمل، ثم أي حياة هذه وأي متعة تلك التي تكون خارج نطاق طاعة الله ومرضاته، بئست حياة ومتعة في معصية الله جل جلاله.
يقول الأستاذ خالد أبو شادي المسجون في سجون السيسي: “هل جهّزت نفسك وأعددت العدة؟ فإنك لا تدري متى تُستدعى للمساءلة وتخضع للمحاسبة؟”.
فها هي العابدة التقية معاذة العدوية كانت تقول إذا جاء النهار: هذا يومي الذي أموت فيه فما تنام حتى تمسي، وإذا جاء الليل قالت: هذه ليلتي التي أموت فيها فلا تنام حتى تصبح.
وها هي السيدة نفيسة رضي الله عنها من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت من الصالحات الزاهدات تقوم الليل وتصوم النهار وتكثر البكاء من خشية الله عز وجل حتى قيل لها ترفقي بنفسك لكثرة ما رأوه منها فقالت: كيف أرفق بنفسي وأمامي عقبة كؤود لا يقطعها إلا الفائزون. حجت ثلاثين مرة، وكانت تحفظ القرآن وتفسيره، حضرتها الوفاة وهي صائمة فألزموها الفطر فقالت: واعجباه أنا منذ ثلاثين سنة أسأل الله تعالى أن ألقاه صائمة أأفطر الآن؟ هذا لا يكون فخرجت روحها وهي صائمة.
فيا من تسوف وتسوفين، وتؤجل وتؤجلين، يا من غركَ وغركِ طول الأمل قوموا وانتفضوا وحطموا قيود الدنيا وقولوا:
ما أحلم الله عني حيث أمهلني وقد تماديت في ذنبي ويسترني
أنا الذي أغلق الأبواب مجتهدًا على المعاصي وعين الله تنظرني
دعني أنوح على نفسي وأندبها وأقطع الدهر بالتسبيح والحزن
دعني أسيح دموعًا لا انقطاع لها فهل عسى عبرة منها تخلصني