معركة الوعي (144) حول بعض ما جاء في كتاب “قدس أقداسنا/ قدس أقداسهم” ليتسحاق رايتر ودفير ديمنت (2)
حامد اغبارية
المقال الثاني من مناقشة ما جاء في كتاب “قدس أقداسنا/ قدس أقداسهم- الإسلام، اليهود وجبل الهيكل” للمستشرقيْن اليهودييْن يتسحاق رايتر ودفير ديمنت. ورايتر هو رئيس الجمعية الإسرائيلية لدراسات الشرق الأوسط ومحاضر في كلية القاسمي في باقة الغربية، وشغل في السابق نائب مستشار رئيس الحكومة للشؤون العربية في حكومات بيغن وشامير وبيرس. أما ديمنت فهو باحث مختص في سياسات الشرق الأوسط والإسلام. وقد صدر الكتاب عام 2020 باللغة الإنجليزية، وترجمه إلى العربية عمر واكد.
***
ذكرتُ في المقال السابق أن مؤلفي الكتاب موضوع هذه السلسلة استندا – فيما استندا إليه- إلى روايات ينسبانها إلى محمد بن جرير الطبري في كتابه “تاريخ الرسل والملوك” والمعروف أيضا باسم “تاريخ الأمم” لإثبات روايتهما بخصوص حق اليهود في المسجد الأقصى المبارك. وحقيقة الأمر أنهما ينتهجان أسلوب الاستخفاف بعقل القارئ الذي ربما لم يطّلع على منهج الإمام الطبري في تاريخه. وفي هذا المقال أبين منهج الطبري في رواياته.
يقول الطبري في مقدمة تاريخه: (وليعلم الناظر في كتابنا هذا أن اعتمادي في كل ما أحضـرتُ ذكــره فيه، إنما هو على ما رويتُ من الأخبار التي أنا ذاكرها فيه والآثار التي أنا مُسندها إلـى رواتها فيه دون ما أدرك بحجج العقول وأستنبط بفكر النفوس.. إلا القليل اليسير منه). يقصد أنه لم يحقق في صدق الروايات وما يقف خلفها.
وعن ذلك يقول الباحث المؤرخ والمحقق المغاربي د. محمد أمحزون في “منهج الطبري في تاريخه”:
(وهكذا أكد الإمام الطبري حرصه على إسناد كل خبر إلى قائله، وأنه سوف لن يسمح لحجج العقول وفكر النفــوس أن تتدخل فـي التفسير والاستنباط، في الكتابة والتدوين أثناء جمع المادة، وما ذاك إلا حرصاً منه على جمع ما قيل كلّه أو جُلّه من وجهات نظر متعددة إنْ كانت، وبعد ذلك تحصل الموازنة والمقارنة، والاستنباط والقبول والرد لمن يريد).
ويضيف أمحزون: (ولهذا قام الإمام الطبري -رحمه الله – وهو يعرض وجهات النظر المختلفة لرواته ومصادره باتباع طريقة جمع الأصول وتدوينها على صورة روايات، المسؤول عنها رجال السند؛ أي الرواة الإخباريون. وقد برهن على ذلك في قوله: “فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما ينكره قارئه أو يستشنعه سامعه، من أجل أنه لم يعرف له وجهاً في الصحة ولا معنى في الحقيقة، فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قِبَلنا، وإنما أتي من قِبل بعض ناقليه إلينا، وأنَّا إنما أدينا ذلك عن نحو ما أُدي إلينا”).
ويقول أيضا: (أما فيما يتعلق بعدالة الرواة، فإذا كان الإمام الطبري لا يتقيد بالقيود التي تمسَّك بها أهل الحديث بالنسبة إلى الرواة الضعفاء، فأدخل في تاريخه أقوال الكلبي وابنِهِ هشام والواقدي وسيف بن عمر وأبي مخنف وغيرهم من الضعفاء المتهمين بالكذب والوضع في الحديث، فإن ذلك يرجع إلى اتّباعه منهجاً معلوماً عند علماء الحديث وغيرهم، حيث يذكرون ما يبلغهم ويسوقون سنده، فالصحيح يؤخذ وغير الصحيح يُعرف ويردّ وفق ضوابط الشرع وقواعد الرواية..).
ويضيف: (وفي هذا الصدد قال الحافظ ابن حجر في ترجمة الطبراني بأن الحفّاظ الأقدمين يعتمدون في روايتهم الأحاديث الموضوعة مع سكوتهم عنها على ذكرهم الأسانيد، لاعتقادهم أنهم متى أوردوا الحديث بإسناده فقد برئوا من عهدته، وأسندوا أمره إلى النظر في إسناده).
ويتابع: (ولكون الإمام الطبري من علماء الحديث فقد سار على هذا النهج في تاريخه، فهو ليس صاحب الأخبار التي يوردها، بل لها أصحاب آخرون أبرأ هو ذمته بتسميتهم، وهؤلاء متفاوتون في الأقدار، وأخبارهم ليست سواء في قيمتها العلمية، ففيها الصحيح والضعيف والموضوع، تبعاً لصدق الرواة أو كذبهم ومنزلتهم من الأمانة والعدالة والتثيبت، ولذلك ينبغي دراسة أسانيد ومتون الروايات وفق المقاييس المعتبرة عند العلماء للوقوف على مدى صحتها من عدمه. وبناء على ذلك لا يكفي في المنهج العلمي السليم الإحالة على تاريخ الإمام الطبري أو غيره من الكتب المسندة دون دراسة سند الرواية ومتنها ، لأن من أسند فقد برئ من العهدة. ومما يلاحظ أيضاً أن الطبري لم يرد الاقتصار على المصادر الموثوقة، بل أراد أن يُطلع قارئه على مختلف وجهات النظر، فأخذ من مصادر أخرى قد لا يثق هو بأكثرها إلا أنها تفيد عند معارضتها بالأخبار القوية؛ فقد تكمل بعض ما فيها من نقص، أو تقوّى الخبر باشتراكها مع المصادر الصحيحة في أصل الحادثة.).
وتحسن الإشارة هنا إلى أن اتساع صدور أئمة السنة من أمثال الإمام الطبري لإيراد أخبار المخالفين من الشيعة وغيرهم (من الإسرائيليات) دليل على فهمهم وأمانتهم ورغبتهم في تمكين قرائهم من أن يطّلعوا على كل ما في الأمر، واثقين من أن القارئ اللبيب المطّلع لا يفوته مَن هُم موضع تهمة فيما يتصل بالقضايا التي يتعصبون لها، مما ينبغي معه التحري والتثبت لاستخلاص الحقائق المختلطة بالإشاعات والمفتريات.
أمَّا الذين يحتطبون الأخبار بأهوائهم أو لجهلهم بمنهج الإمام الطبري، ولا يتعرفون إلى رواتها، ويكتفون بالإشارة في الحاشية إلى أن الطبري روى في صفحة كذا من جزء كذا.. ويظنون أن مهمتهم انتهت بذلك، فهؤلاء يظلمون الإمام الطبري بذلك ويسيئون إليه، وهو لا ذنب له بعد أن بيّن لقرائه مصادره، وعليهم معرفة نزعات وأحوال أصحاب هذه المصادر ليعرفوا للأخبار أقدارَها بوقوفهم على أقدار أصحابها.
فأين مؤلفا كتاب “قدس الأقداس..” من هذا كلّه؟!!!
إن إيهام القارئ بأن تاريخ الطبري بالطريقة التي أورداها يؤكد حق اليهود في الأقصى أو يؤكد وجود هيكل سابق للمسجد الأقصى أبعد ما يكون عن الحقيقة والأهم من ذلك أبعد ما يكون عن تحقيق الرواية التاريخية.
جاء في الكتاب (ص19): “في الفترة الأموية، نهاية القرن السابع، بدأ استعمال التفسير القائل إن المسجد الأقصى المذكور في القرآن موجود في القدس في مكان معروف في الثقافة اليهودية والمسيحية على أنه بيت المقدس أو جبل الهيكل. في هذه الفترة جرى تأليف أدب فضائل القدس وبضمنه حديث “شد الرحال” المنسوب إلى النبي محمد” (صلى الله عليه وسلم). وسوف أناقش هذه التخريفات والتحريفات في المقال القادم بحول الله تعالى (يتبع).