إســرائــــيل… إذ تلد الأمة ربَّتها
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
اعتمدت إسرائيل منذ قيامها على الاستيطان كمادة أساسية واستراتيجية في تحقيق وجودها وتوسعها المادي، واستعملت لتحقيق هذه الغاية، رباعية الإبادة والتشريد والاحلال والقمع الدائم للبقية المُحتلة.
هذه السياسة استُعملت في مناطق عام 1948 التي استحالت إسرائيل، واستُعملت بعد النكسة في المناطق المحتلة عام 1967 مع فارق دقيق في السياسات بين القدس والضفة الغربية والقطاع من خلال توجيه سياسي يعتمد الاستيطان والتيار الديني الصهيوني الذي أسسه الحاخام أبراهام كوك (1865-1935) منظّر المسيحيانية والوعد الإلهي والقول إنَّ العلمانيين من الرواد ممن أسسوا الدولة هم أدوات “قدرية” لتحقيق الدولة اليهودية المهدوية التي ستبني الهيكل.
تاريخيًا، يعود الاستيطان في الضفة الغربية إلى حزب “المباي البنغريوني” الحاكم آنذاك، والذي رأى بالمستوطنات أدوات تمكين وتثبيت وتغيير في الواقعين السياسي والجغرافية-السياسية، ومن ثمَّ الديموغرافي، وقد بنيت أول مستوطنة عام 1967، مستوطنة “كفار عتصيون”، وبُنيت مستوطنة “كريات أربع” عام 1968، ونفس الحزب هو من شجَّع ودعم التيار الصهيوني الديني الذي رافق الحركة الصهيونية مبكرًا وشارك في معظم الحكومات التي قامت، حتى أضحى بيانًا لمعنى أن تلد الأمة ربتها سياسيًا، فقد نموا وترعرعوا تحت عين وبصر التيار العلماني، ليتغلغلوا في مفاصل الدولة ويستحيلوا أسيادًا فيها، ويلاحظ عمق تأثير الصهيونية الدينية في حيوات الناس العاديين فضلًا عن السياسيين من اليمين على اختلاف درجات تشددهم، وقد كشفت الانتخابات الأخيرة عمق تغلغلهم بين القطاعات الشبابية، بغض النظر عن خلفياتهم الاجتماعية- الاقتصادية.
تكشف الوثائق وبروتوكولات “حزب مباي” في خمسينيات القرن الماضي، والموجودة في أرشيف حزب العمل في مؤسسة بيت بيرل، عن السياسات التي تبناها بن غوريون وموشيه ديان وشمعون بيرس، الداعية للتعامل مع العرب عبر أدوات العنف والقتل والتشريد، وهي السياسة التي انتهجهوها في التعامل مع من تبقى من الفلسطينيين، كما أنها ذات السياسات التي تبناها التيار الديني الصهيوني الذي شجعه “المباي” -لاحقًا حزب العمل، تأسس عام 1968- في المناطق المحتلة عام 1967 على الاستيطان وجعل المستوطنات قلاعًا عسكرية وتأسيس مليشيات مسلحة تحت رعاية الحاخامات. وتعتبر حركة “غوش امونيم” التي تأسست عام 1974 تحت سمع وبصر شمعون بيرس العمالي، الأداة الاحتلالية الأساس التي تأسست تحت سمع وبصر المباي/ العمل، وطوَّرت أدواتها الاستعمارية وعقيدتها القتالية التوسعية وأيديولوجيتها الدينية المسيحيانية، ولعبت دورًا كبيرًا في نشر المعاني الاستيطانية المؤسسة على منطق عقدي ديني، إذ نادت بالاستيطان على كامل أراضي الضفة الغربية ورفعت مبكرًا شعار المليون مستوطن، وما كان لها أن تتغلغل وتمتد، لولا الدعم الحكومي والسماح بنشر فكرها المسيحياني القائم على ثنائية الخلاص المادي والروحاني، لنصل إلى هذه اللحظات، لحظات الفاشية الدينية الصهيونية والحاريدية -الصهيونية ومطالبتها بتفكيك الدولة ونظامها القائم، سعيًا لتحقيق الدولة اليهودية التي تحكم بالشريعة والساعية لطرد العرب ممن يرفضون الولاء والخنوع لسياسات هذه الزمرة.
يزعم ميخا غولدمان في كتابه “مصيدة 67” أنَّ اليمينية والتطرف دخلت إلى التيار الديني الصهيوني في سبعينيات القرن الماضي، وإن كانت جذورها تعود إلى عام 1967 (انظر الفصل الثالث، ص52-53) والحقيقة أنَّ مدارسة أفكار وتعاليم الراب كوك تشير إلى تطرف شديد اتجاه الوجود الفلسطيني منذ تأسيس التيار الديني الصهيوني، ولقد نظَّر مبكرًا للمسيحيانية القائمة على أساس من الوعد الإلهي، بأن أرض “إسرائيل” وعد إلهي وبالتالي فكل من على هذه الأرض محتل يجب طرده من الأرض الموعودة، وعليه فكل قتل يتمّ في فلسطين التاريخية عمومًا وفي المناطق المحتلة عام 1967 هو عمل مباركٌ يضاف إلى مداميك تحقيق الخلاص المادي كما الروحاني عبر تنظيف الأرض من الأغيار.
اليوم، وبعد أن أضحى التيار الديني الصهيوني المسيطر على العديد من مفاصل الحياة السياسية والعسكرية، باتت مطالبه علنية واستجابة نتنياهو لكافة مطالب التيار الديني والديني الصهيوني، ليست هوسًا سياسيًا ولا من باب انقاذ نفسه من حبل المحاكمات، بقدر ما هي قناعاته العقدية- الأيديولوجية-السياسية، ويكاد يكون من الزعماء البراغماتيين القلائل الذين يسخرون منطقهم السياسي البرجماتي لمصلحة الأيديولوجيا ومقارباتها السياسية. والاستيطان الاستعماري الاحلالي في الضفة الغربية ومطالب التيار الديني الصهيوني بتولي ملف الضفة الغربية، أمنيًا وسياسيًا، هو في جوهره امتدادٌ لتحقيق المعنى الاستراتيجي الزاعم أنَّ الضفة الغربية هي العمق الاستراتيجي لإسرائيل والامتداد الطبيعي لها. في ظل السياسات التي تتضح باستمرار من خلال التوافقات التي تمت وتتم بين التيار الديني والديني الصهيوني ونتنياهو، فإنّ هذه المجموعة تصبح السيد الحاكم في هذه البلاد، ليتحول اليسار الإسرائيلي ومركز الخارطة السياسية إلى هوامش في السياسات الداخلية.
لعلَّ هذا ما دعا عديد القيادات الإسرائيلية لرفض تصريحات وتوافقات نتنياهو والمجموعة الدينية، فمطالبة قائد هيئة الأركان السابق ايزنكوت بمظاهرة مليونية، وبيان قائد هيئة الأركان الحالي كوخافي الرافض لمنح الإدارة المدنية لسلطة سموطريتش وإخضاع 72 وحدة حرس حدود لبن غفير، يكشف عن حجم التحولات في المجتمع الإسرائيلي ويبين كذلك عمق التأثير للمجموعات الدينية في المجتمع الإسرائيلي. ومن نافلة القول الإشارة إلى أننا نشهد بدايات التفكك للدولة التي طالما أصرت على أنها يهودية وسنَّت بذلك قانونًا فرَّجَ الطريق لإعلان حاخامات التيارات الدينية عن الشروع في تحقيق معنى الدولة اليهودية قوميًا ودينيًا.