الدروس المستفادة من زيارة جنوب أفريقيا (4).. القوانين العنصرية كأداة واستراتيجية استعمارية
ساهر غزاوي
توقفنا في المقالة الأخيرة عند مفهوم “الأبارتهايد” وبيّنا بعضًا من إسقاطاته على الحالة الفلسطينية، غير أن ما أريد التأكيد عليه في سياق هذه السلسلة، أن استحضار تجربة الجنوب أفريقية، بالرغم من أنها تُعد صورة مُلهمة للتقريب والتشبيه والوصف والمقارنة والمقاربة للحالة الفلسطينية، إلا أنها ليست للمطابقة الحرفية ولا لنسخها ولصقها ونقل تفاصيلها كما هي لإسقاطها على الحالة الفلسطينية ولو عنوة، فللتجارب التاريخية لها خصوصيتها، هذا عدا أن الذين يتشبثون دائمًا بمقولة “التاريخ يعيد نفسه” كثيرًا ما يقعون في فخ المقارنة السطحية بين التجارب التاريخية وبين الواقع، لذا فإن الاستحضار هنا للمزيد من التنوير والتثقيف والاطلاع والتعلم والاستفادة من حركة النضال في جنوب أفريقيا التي بذلت تضحيات هائلة لمحو مئات السنين من الاستعمار الهولندي والبريطاني والفصل العنصري، وأيضًا لتجنب الأخطاء التي وقعت فيها.
وعودة على بدء، فإن المُهتم والدارس والمُعايش للحالة الاستعمارية في فلسطين عندما ينظر إلى الأدوات والاستراتيجيات الاستعمارية التي استخدمت وطبقت في جنوب أفريقيا- في ظل حالة الأبارتهايد التي بزغت كنظام في عام 1948 بفوز الحزب الوطني، وهو حزب يميني متطرف-، على الشعب المُستَعْمَر للسيطرة عليه واستغلال خيراته في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إلى جانب تحطيم كرامته وتدمير تراثه الحضاري والثقافي، فإنه دون أدنى شك سيستحضر الأدوات والاستراتيجيات الاستعمارية التي تستخدم وتطبق في فلسطين.
إن نظام الأبارتهايد جنوب الأفريقي الذي تأسس عام 1948 بعد الاستقلال عن بريطانيا، حصر مفهوم الاستقلال بالحرية والانعتاق للبيض فقط عن بريطانيا، مع أهمية الإشارة بمكان إلى أن عام 1948 هو العام الذي أنشأت فيه إسرائيل كيانها على أرض فلسطين مستخدمة “الأبارتهايد” كأداة واستراتيجية لتعميق استعمارها الإحلالي، ولا شك أن سياقات أوجه التشابه الاستعماري وأدواته بين الحالتين كثيرة، لكن سنتوقف في هذه المقالة عند بعض القوانين العنصرية، وفي سياق هذا الحديث، التقينا في خلال جولتنا الدراسية مع مختصين بالقانون منهم السيد فُيروز كتشاليه وهو محاضر في جامعة فيتواتيرسراند (Witwatersrand) في مدينة جوهانسبرغ ومختص بالقانون والمرجعية القانونية ولديه تاريخ طويل بالنضال والقانون والسياسة، وقد حدثنا عن النظام القانوني والخاص في جنوب أفريقيا وأجرى مقارنات عدة مع القضاء الإسرائيلي.
1- قوانين سلب الأراضي: حقق نظام الأبارتهايد أطماعه في الاستحواذ على الأراضي من خلال تشريعه لسلسلة من القوانين التي سهلت مهمته في السيطرة على الجنوب أفريقيين وتفريقهم في “كانتونات” جغرافية عنصرية بحسب عروقهم وقبائلهم، ولعزلهم في أماكن مخصصة لحصر نموهم الجغرافي. لذا يمكننا القول، إن الفلسطينيين منذ عام 1948 وإلى يومنا هذا شُرّعت ضدهم الكثير من القوانين العنصرية والديكتاتورية العسكرية القمعية المشابهة لما ذكر أعلاه، للسيطرة على أراضيهم ونهبها والتضييق عليهم وحصرهم في أماكن محدودة لمنع توسعهم العمراني، وذلك كله إلى جانب سياسات هدم البيوت وترك أوضاع القرى والمدن العربية مزرية ناقصة الخدمات والموارد.
2- قانون “سجل السكان”: من تشريعات التي سنّها نظام الأبارتهايد لتنفيذ مشروعه السياسي، قانون سُمي “سجل السكان” أُقرّ في 1950، وقسّم سكان البلاد رسميًا إلى مجموعات عرقية حدد أماكن وجودها في أماكن معينة من البلاد. ومهد هذا القانون لتفرقة شاملة أنتجت مجتمعين يتباينان في كل شيء ويسلكان مساريْ تنمية مختلفين تمامًا. فالقانون قسَّم سكان البلاد إلى أربع مجموعات عرقية هي: الأفريكانو (البيض)، والبانتو (السود)، والخلساء، والآسيويون، ونص على أن يُثبت انتماء المواطنين في هوياتهم، كما حدد القانون مناطق حضرية محددة لكل مجموعة لكن بنسب غير متساوية ولا منصفة. ولعل هذه صورة قريبة لسياسة (فصل المستعمَر) التي انتهجتها إسرائيل والتي تعتمد على العزل من خلال التفرقة بين الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة وفي مناطق الـ 48 والقدس، وتفريقهم في “كانتونات” جغرافية عنصرية.
3- قانون “حظر الزواج المختلط”: كان هذا القانون من أوائل التشريعات التي تم سنّها بعد وصول الحزب الوطني إلى السلطة في جنوب أفريقيا والصادر عام 1949 وبموجب قانون الفصل العنصري هذا فإنه يحظر الزواج بين البيض وأي شخص يُعتبر غير أبيض بين “الأوروبيين وغير الأوروبيين”. في الحالة الفلسطينية، وإن لم تكن الصورة مطابقة تمامًا، إلا أن القوانين العنصري الإسرائيلية وأبرزها (قانون منع لم الشمل العنصري) الذي يمنع فعليا “الزواج المختلط” الذي يجري بشكل طبيعي بين أبناء وبنات الشعب الواحد بتجمعاته المختلفة، وهناك عشرات آلاف النساء الفلسطينيات ضحايا لهذا القانون العنصري.
4- قوانين الحظر والملاحقات السياسية: في 1960 حظر نظام الأبارتهايد حزب المؤتمر الوطني (أغلبية أعضائه من السود، ولكن توجد مجموعات عرقية أخرى) والتشكيلات السياسية الحليفة له بعد أحداث العنف التي حدثت جرت في تلك الفترة، على اعتبار أن حزب المؤتمر المحظور “يمس ويهدد أمن ونظام الأبارتهايد”، وقد أتبع ذلك بحملة اعتقالات واسعة طالت بعض قيادات المؤتمر وعلى رأسهم نيلسون مانديلا. فمن نفس هذا المنطلق، حظرت إسرائيل “حركة الأرض” في 17/11/1964 في ظل الحكم العسكري، وحظرت الحركة الإسلامية في 17/11/2015 ولاحقت واعتقلت عددًا من قياداتها ونشطائها مستخدمة ذات الأدوات والاستراتيجيات الاستعمارية التي طبقت في جنوب أفريقيا بادّعاءات تتلخص بأن نشاط الحركتين “يمس ويهدد دولة إسرائيل”.