لندرك مجتمعنا..
الشيخ رائد صلاح
لا يوجد أي عذر في الدنيا يبرر الرشاوي الفاسدة، وشهوة الحكم مهما أنبتت في قلب صاحبها حب الكرسي والمنصب والسلطة والسلطان لا تبرر لصاحبها شراء صوت الجماهير بالرشاوي الفاسدة، وشهوة الشهرة مهما أنبتت في قلب صاحبها حب الإعلام والأضواء وجاذبية الكاميرات والقنوات الفضائية والإذاعات لا تبرر لصاحبها شراء ضمير الإعلاميين بالرشاوي الفاسدة، وشهوة الظهور مهما أنبتت في قلب صاحبها حب التأنق وجذب العيون وصعود المنابر والزهو على خشبات المسارح واتقان إلقاء الكلمة من وراء مكبرات الصوت والانحناء المصطنع لآلاف المعجبين لا تبرر لصاحبها صناعة طبقة من المصفقين، وإلزامهم بالتصفيق له في الظرف والزمان والمكان الذي يحدده لهم، أو بالهتاف باسمه وفق النبرة والشعارات والألحان التي يحددها لهم مقابل ثمن بخس من الرشاوي الفاسدة!!
فإن هذا المغرور المتكبر الذي سمح لنفسه أن يوزع على الجماهير أو على رجال الإعلام أو على طبقات المصفقين رشاويه الفاسدة، فهو في الحقيقة لم يصادر من هذه الجماهير صوتها فقط، ولم يصادر من رجال الإعلام صفاء مهنيتهم فقط، ولم يصادر من طبقات المصفقين كنز عواطفهم فقط، بل صادر من كل هؤلاء كرامتهم وأبقاهم بلا كرامة، وصادر منهم حريتهم وجعل منهم عبيدا يجرون خلفه ورهن إشارته، وصادر منهم عقولهم وبات يريهم الحسن الذي هو يراه حسنا، والخبيث الذي يراه هو خبيثا، وصادر منهم إرادتهم وأصبحوا جزءًا من إرادته، وصادر منهم اختيارهم وباتوا بشرا مسيَّرين بما يمليه عليهم اختياره، وصادر منهم قرارهم وباتوا ذيلا في قراره!!
لكل ذلك، فإن الرشاوي الفاسدة على اختلافها وإن كانت أقبحها الرشاوي السياسية تصنع مجتمعًا طفيليا لا يحسن أن يصنع شيئا ولو (إبرة بابور)، وتُنتج شعبًا أجوف معطل الحواس وبليد الأحاسيس، وكأنَّ له عينين لا يرى بهما، وأذنين لا يسمع بهما، وقلبا لا يفقه به، ولسانًا لا يعبر عن حقيقة رأيه!! لا بل هذه الرشاوي الفاسدة تمسخ كل أُمَّة قبلت الرضوخ للرشاوي الفاسدة وتتركها قاعا صفصفا كأنها أمَّة قاحلة خاوية متصحرة، لا إبداع فيها، ولا اتقان، ولا تألق، ولا طاقة، ولا وزن، ولا طعم ولا رائحة!!
لكل ذلك شدَّد الإسلام بالنكير على كل باذل لهذه الرشاوي الفاسدة، وعلى كل آخذ لها، وعلى كل وسيط بينهما!! فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم)، أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن. ورواه ابن حبان في صحيحه والحاكم وزاد: (والرائش)، يعني الذي يسعى بينهما!! وحول هذا الحديث قال العلماء: الراشي هو الذي يعطي الرشوة الفاسدة، والمرتشي هو الذي يأخذها، والرائش هو الساعي بينهما!! فكل أقطاب الرشوة الثلاثة هؤلاء: الراشي والمرتشي والرائش ملعونون عند الله تعالى لأنهم يجعلون من كل جماهير ومن كل شعب ومن كل أمة أمواتا لا نبض فيهم، وكأنهم جسد بلا روح، وصدفة بلا لؤلؤة، وخزينة بلا كنز، فيا لتعس هذا الجسد، ويا لتعس هذه الصدفة، ويا لتعس هذه الخزينة، فهي مظهر بلا جوهر، وقالب بلا قلب، وشكل بلا مضمون، وكم من جماهير كانت متماسكة كالجسد الواحد، فاجتالتها الرشوة الفاسدة، ففككتها إلى شذر مذر، وكم من شعب كان كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، فنخرت فيه الرشوة الفاسدة، فما أبقت له دنيا، وما أبقت له دينا، وكم من أمة كانت في أوج قوتها وسؤددها وزينتها، فعصفت بها ريح الرشوة الفاسدة العقيم، فجعلتها يبابا تبابا كأن لم تغن بالأمس.
ولذلك فإن أخطر ما بات يتعرض له مجتمعنا في الداخل الفلسطيني، هو سعي البعض منا- وبلا رحمة- إفشاء الرشوة الفاسدة في مسيرة مجتمعنا هذا المنهك أصلا والمعلول أصلا، والدامي أصلا. ومع شديد الأسف فقد وجد هؤلاء البعض منَّا أنًّ الغاية تبرر الوسيلة كل وسيلة في لعبة الكنيست، ووجدوا أنه لا بأس من توزيع المال السياسي على قطاع من جماهيرنا عدًّا ونقدًا لدفعها للخروج إلى مقاعد التصويت ومنحهم صوتها!! وقد أصابتني قشعريرة الصدمة عندما شاهدت البرنامج الوثائقي الذي يقدّمه الإعلامي عبد الإله المعلواني والذي هو بعنوان (وقفات) حيث أورد في هذا البرنامج مقتطفات من أقوال الباحث والمحاضر الجامعي د. أسعد غانم، ومقتطفات للعامل في صندوق إبراهيم د. ثابت أبو راس، ومقتطفات لعضو الكنيست ورئيس القائمة الموحدة د. منصور عباس، حيث أكد ثلاثتهم في أقوالهم إنَّ مبالغ طائلة من المال السياسي دخلت إلى مجتمعنا في الداخل الفلسطيني، وهي ذات مصادر شتى، فبعضها عابر للمحيطات من صناديق دعم صهيونية أمريكية، وبعضها عابر للحدود من الإمارات المتحدة، وبعضها من السلطة الفلسطينية.
كما أكدوا في أقوالهم أن هذه المبالغ الطائلة من الأموال لم يقم البعض منا بتوزيعها على البعض من مجتمعنا الفلسطيني لوجه الله تعالى، وكأنها صدقة جارية سرية، لم تعلم شمال من وزعها ما أنفقت يمينه، بل لا يزال يتم توزيعها منذ سنوات والمؤكد أنه منذ عام 2015، وقد يكون قبل ذلك، وقد رمز إلى ذلك عضو الكنيست سابقا عن التجمع د. سامي أبو شحادة، في برنامج تلفازي قبل أسابيع!! وما غاية فتّ هذه الأموال الطائلة؟! إنها سرقة أصوات البعض من مجتمعنا، وسرقة ضمائرهم، وسرقة عقولهم، وسرقة حريتهم، وسرقة حقهم باختيار مواقفهم من أجل الانصياع لإملاءات من طرق أبوابهم ووزع عليهم هذه المبالغ الطائلة من المال السياسي الذي هو الوجه الآخر للرشاوي الفاسدة!! وما أكد كل ذلك ما سمعته قبل أيام من رئيس لجنة المتابعة الأستاذ أبو السعيد محمد بركة!!
فيا لها من طامَّة أشنع من طامة مصادرة أرضنا وهدم بيوتنا والعبث بمقدساتنا!! وامصيبتاه!! من أجل ماذا كل ذلك؟! من أجل أن يقال اجتازت القائمة العربية الفلانية نسبة الحسم!! وأصبح فلان عضو كنيست!! لأجل ذلك استباح البعض منا إفشاء الرشاوي الفاسدة في مسيرة مجتمعنا!! ويا لها من آفة أخطر من آفة السوق السوداء والربا الأسود والخاوة وفوضى السلاح وترويج الممنوعات!! ولذلك ها أنذا أصرخ وأقول وأنادي الجميع منَّا: لندرك مجتمعنا.