نتائج الانتخابات الإسرائيلية… الإعلان عن موعد الدفن
صالح لطفي
أكدت نتائج انتخابات الكنيست الإسرائيلي الـ (25)، أن المجتمع الإسرائيلي يتجه أكثر نحو اليمين ونحو التيار الديني، وهذه التحولات ليست وليدة اللحظة أو نتيجة الأحداث الجارية، بل هي ثمار تفاعلات تربوية ومجتمعية واجتماعية حرصت عليها الحكومات المتعاقبة منذ قيامها وإلى هذه اللحظات. هذا إلى جانب تغييرات جوهرية تجري داخل المجتمع الإسرائيلي، تتعلق بجدل العلاقة مع الدين، سياسةً ومجتمعًا، وقد حاول الإعلام الإسرائيلي تعليل النجاح الكبير للصهيونية الدينية وحصولها على 14 مقعدًا برد الفعل على أحداث هبة الكرامة التي جرت في العام الفائت 2021، خاصة أنَّ بن غفير وسموتريتش استغلا تلكم الاحداث على مدار عام كامل الى جانب استغلالهم اليومي لمجريات الاحداث في الضفة الغربية والقدس والمسجد الأقصى، وطروحاتهم المتعلقة بفرض الحكم والسيادة على النقب والمدن الساحلية والجليل والمثلث، وهي تعليلات خبيثة تستهدف ما تبقى من أراض مع الفلسطينيين على اعتبار أننا غزاة. ولكن ثمة حقيقة كامنة في الصيرورات الجارية في المجتمع الإسرائيلي تتعلق بالهوية وتعريف الأنا لليهودي وللإسرائيلي على حد سواء.
شرع نتنياهو باستمزاج مواقف شركائه من التيارين الحاريدي والديني الصهيوني، وواضح أنَّ تصريحات مكونات القائمة، أي الدينية الصهيونية، المتعلقة بالشاذين جنسيا وقوننة منع المحكمة العليا من الاعتراض أو رفض قانون اقرَّته الكنيست أو التصريحات حول ألعاب كرة القدم يوم السبت او خصخصة النقابات الكبرى وقضم صلاحياتها، وهو ما دفع هذه النقابات لإصدار تحذيرات شديدة اللهجة دفعت نتنياهو لإصدار بيانات طمأنة، لكن من الواضح أنًّ حكومة نتنياهو القادمة ستبدأ مهامها بالقدم اليسرى وستفتح مواجهات يبدو شاملة مع كافة مؤسسات الدولة وقطاعات محددة من الإسرائيليين واليهود على اعتبار أنًّ الإسرائيلي هو كل يساري وعلماني واشكنازي وفقا لمحددات الهوية التي تبناها اليمين في العشريتين الأخيرتين.
شركاء نتنياهو يصرّون على استغلال هذه الدورة للدفع نحو تكريس يهودية الدولة، قولًا وعملًا، على مستوى الحكومة وعملها وعلى المستويات العامة والشعبية المختلفة، فهم ينطلقون في هذه المهمة من خلال ثلاث نقاط يعتبرونها مخرجات هذه الانتخابات: الشعب قرر، يهودية الدولة أولًا، تخليص وإنقاذ الأرض اليهودية بكونها وعدٌ ألهي. فمنَ صوَّت لليمين فهو من الشعب وما عدا ذلك فهم ليسوا من الشعب “اليهودي” الذي يعتبر شرقيًا ومحافظًا ومتدينًا. والملفت للنظر في هذه الحيثية أنَّ من يتولون المسؤوليات العليا ويقودون هذه الموجة هم من النخب اليمينية الأشكنازية كنتنياهو الليبرالي، رغم أنَّه اعلن اكثر من مرة أنه من أصول سفاردية، وسموتريتس قائد الحركة الصهيونية الدينية، ولم يصل إلى منصب رئيس الوزراء أي من الأصول الشرقية منذ انقلاب عام 1977، وتقديم اليهودية على الديموقراطية وهو ما يعني إعادة هيكلة العلاقة بين الديني والسياسي في الفضاء العام الإسرائيلي. وبمناسبة أنَّ الشعب قرر، فقد صوَّت لصالح قوى اليمين والتيار الحاريدي أكثر من نصف اليهود لكن برسم التقسيم الهوياتي القائم على أساس الفرز الديني، فإن ما عداهم هم إسرائيليون، ولذلك فإن من خواص هذه الانتخابات وأهميتها انها كشفت عن حجم التدافع داخل المجتمع الإسرائيلي وانقسامه الجذري.
ولئن كشفت الانتخابات عن حجم التدافع داخل المجتمع الإسرائيلي بين هويته الإسرائيلية المشتقة من الحداثة وقيام إسرائيل في ظلها ومن خلالها يهوديته التي تمنحه الخصوصية والفوقية “الإلهية”، فان عوامل تفكك المجتمع واستقدام لحظة المواجهة بين هاتين الهويتين هي مسألة الوقت وستكون عوامل أخرى مساعدة على هذه اللحظة في مقدمتها التحولات المتوقعة داخل المؤسسات الحامية للدولة وفي مقدمتها جهاز الأمن العام والشرطة وأخيرًا الجيش الذي أسس كتيبة خاصة للدفاع والحفاظ على المستوطنين.
مطالب اليمين مقدمة للانفصال وترسيخ اليهودية
كما نجح نتنياهو أن يجمع شتات اليمين الإسرائيلي تحت جناحه متجاوزًا حجم الخلافات بينهم وحجم المصالح، فقد بدأ نتنياهو يستشعر حجم الورطة التي وقع فيها، فقد تنبَّهت قوى اليمين الى شغف وحرص نتنياهو للوصول الى سدة الحكم، وتنبه نتنياهو الى حجم الابتزاز المبكر الذي يتعرض له حيث سارعوا في شرع سيوفهم في وجهه. ووفقا للعديد من البيانات، فإنّ نتنياهو لم يتوقع تلكم المطالب والشروط الابتدائية التي وضعتها الأحزاب الحاريدية وقائمة الصهيونية الدينية، ووفقا لتصريحات مختلف الشركاء فإن “يهدوت هتوراة” تطالب بوزير (نائب وزير بصلاحيات وزير كاملة غير منقوصة) خاص بالتيار الحاريدي، وعادة ما كان هذا المنصب من نصيب “يهدوت هتوراه” الا انَّ الفارق في هذه الدورة يكمن في قوننة المطالب، أي سنها في الكنيست والموافقة عليها والمتضمنة الاشراف المطلق على التعليم الديني والحاريدي بما في ذلك المواضيع الأساسية حيث يقرر نائب الوزير نوعية المواضيع لطلبة التيار الحاريدي على خلاف ما يقرره الوزير فضلًا عن الميزانيات المختلفة المُقدرة بالمليارات.
مطلب رئيس “هعوتسما هيهوديت” بوزارتي الأمن الداخلي والمواصلات ووزارة ثالثة مع صلاحيات واسعة جدًا، تلقاه الإعلام الإسرائيلي بصدر رحب بل وبتسويق واضح، وقد ذكر راديو اف-ام103 ان قائد الشرطة كوبي شفتاي الذي اتهم بن غفير بالمسؤولية عن احداث عام 2021 ارسل مقربين منه لبن غفير للمصالحة وللاعتذار عما صدر من تهم اتجاهه من طرف القائد العام، وهو ما يشي بقوة الرياح التي تهب داخل المجتمع الإسرائيلي وهو بيان تقريبي لتفسير التحولات الجارية والمتسارعة على المشهد السياسي وعلاقته بالأمني.
وفي سياق ذكرنا لبن غفير، فقد صرَّح أنه يحمل اجندة محددة تخدم رؤية من يمثلهم ولتحققيها سيكون شرط دخوله الغاء العديد من القوانين، وسن عدد آخر كضمان لتمرير وتطبيق تلكم السياسات. هذا الى جانب تصريحاته ومن معه على العمل على انشاء حرس وطني رسمي مهمته محاربة الإرهاب الزراعي كتعبير عن محاربة الداخل الفلسطيني. ولكن دراسة معمقة لهذه الفكر المُستقدم من المدرسة الكهانية فمهمة هذا الحرس الوطني ستكون اكبر من التصريح وستكون الذراع العسكري الرسمي لهذه المجموعات، ما يعني اننا امام مجموعات إرهابية مقوننة ستستهدف كل من ليس يهوديًا وبالضرورة والاساس الشعب الفلسطيني وهذا بحد ذاته يحمل من الدلالات والمعاني ما يتعلق بنوعية الصراع القادم ومقدمات لصراع داخلي وحمال لمعاني الانفصال تحت مسمى حماية السيادة والحكم، وهو ما سيفضي الى فوضى يدفع الفلسطيني ثمنها ابتداء.
شريكه سموطريتش يطالب بوزارة سيادية فضلا عن وزارة تتعلق بالجليل والمثلث والمنطقة ج في الضفة الغربية لضمها نهائيا للسيادة الإسرائيلية، إلى جانب وزارة المالية أو الامن هذا الى جانب مطالب تتعلق بالمسجد الأقصى رشحَ منها السماح بالصلاة في المسجد الأقصى وتضمين ذلك بقرار حكومي ثم قانوني وفرض السيادة على البلدة القديمة والمسجد الأقصى المُبارك، ومسألة اللعب في السبت وتفكيك المؤسسات المدنية الصهيونية القائمة قبل قيام إسرائيل كنقابة الهستدروت وإلغاء العشرات من القوانين التي مست قطاعات بعينها كالقطاعين الحاريدي والديني-الصهيوني الاستيطاني.
توزيع الغنائم لن يتم بالسرعة التي توقعها عديد المحللين السياسيين بل ان شهية التيار اليميني الديني-الحاريدي-الصهيوني بازدياد وليسوا على عجلة من امرهم، إذ تشير المعطيات انه منذ انتخابات عام 2001 والى انتخابات 2021 فإنَّ عدد أيام التفاوض بارتفاع مستمر وذلك بيان لحجم الابتزاز الذي يتعرض له رئيس الوراء للوصول الى مراده.
ولذلك ما ميزّ السياسات الإسرائيلية الداخلية “الحكومية ” حجم الفساد الداخلي المقونن والأموال السائلة التي تتلقاها أحزاب الائتلاف لتمرير سياساتهم ووعودهم الانتخابية، وهو ما سيميز هذه الدورة أيضا خاصة وان الأحزاب اليمينة تسعى لتشكيل حكومة يمينية راسخة، ما سيدفعها لقبول بعض التنازلات الطفيفة لصالح بقاء اليمين وتمرير سياسات عليا تتعلق براهن ومستقبل العلاقات البين إسرائيلية-يهودية.
نتوقع حدوث صدع داخلي بين الأحزاب الثلاثة والليكود الذي سيقود السلطة وسيعمل على الموازنة بين المصالح الداخلية الضيقة التي ستخدم بقاء الحكومة وعدم الإعلان عن موعد الوفاة والدفن والعلاقات الإقليمية والدولية، وفي مقدمتها العلاقات مع الجوار العربي والإسلامي وبقاء علاقات وطيدة مع الأمريكيين باعتبارهم الحامي الفعلي للوجود الإسرائيلي هذا الى جانب تعقيدات القضية الفلسطينية وتداخلاتها العميقة وتأثيراتها المُباشرة على الايقاعين السياسي والأمني.
ولكن كما كشفت السنوات الخالية عن مجموعات تمتهن الفساد بشكل منظم وعملي، ذلكم أنًّ مجموعات اليمين ومن يحملون اجندات خاصة وعمل اللوبيات ذات الميول الخادمة لتيار اليمين. هذه الدورة فرصتها التاريخية لترسيخ انماطٍ من العلاقات الشعبوية والجمهورانية القائمة على أسس العلاقات المحافظة والدينية والليبرالية وهي نسخة تعمل عليها عديد المراكز اليمينية الساعية لتوطيد مكانة اليمين وافكاره من جهة وتذويت هوية يهودية بقيم جمهورانية مستقدمة من الساحة الامريكية.
من يحملون اجندات خاصة تُقدم مصالحها الضيقة على مصالح الدولة ستغض الطرف عن سلوكيات رئيس الوزراء المرتقبة والمتوقعة وحاشيته وحزبه مقابل صمتهم، ولعل التحولات الجارية في التيار الديني السفاردي، شاس ونوعية الخطاب الذي تمَّ استعماله في الانتخابات الأخيرة وانتقاله من الخطاب الديني الكلاسيكي الى الخطاب الديني الحداثي المُقارب لئن يكون علمانيًا في بعض الطروحات مقاربا وماسًا حيوات الناس العاديين من اليهود من المحافظين الذين جلهم من الشرقيين، وهو سيدفع نحو مزيدٍ من الابتزاز كما تفعل المكونات الأخرى الائتلافية وهو ما سيعجل من سقوط هذه الحكومة ليس بسبب فسادها الداخلي والاختلافات السياسية فلطالما كان التيار الحاريدي ذراعًا سياسيًا لكل من يحقق مطالبه، بل بسبب الصراع الهوياتي والانتمائي مما قد يعجل من الإعلان عن الوفاة وتعجيل الدفن وهو امر افتراضي خاضع للتطورات المتعلقة بجدل العلاقة البين سياسي- الداخلي.