الشيخ كمال خطيب
في غمرة موجة قسوة القلوب وكثرة الذنوب التي تجتاحنا، ومع عاصفة النزعة المادية التي تضربنا من كل جانب، ومع كثرة سهام الشيطان الذي يتربص بنا عند كل زاوية وكل ناحية، ومع نفس أمّارة بالسوء لا تفارقنا، فما أحوجنا إلى ما نُليّن به قلوبنا القاسية، وندفع عنا عاصفة المادّة وحب الدنيا التي تجتاحنا، ونصدّ عنا سهام الشيطان وما أكثرها وهي مصوبة إلينا، وعن نفوسنا الأمارة بالسوء التي نحن أحوج ما نكون إلى ترويضها ومخالفتها حتى لو أبكيناها، لأنه ضمان أن نضحك في الآخرة كما قال أحد الصالحين: “ما زلت أقود نفسي إلى الطاعات وهي تبكي، حتى قادتني إلى الجنة وأنا أضحك”. ومع موجة قسوة القلوب وكثرة الذنوب، فإنها موجة التيئيس والتثبيط يسلّطها علينا أعداؤنا، حتى إذا نجحوا ومِلنا نحن لليأس والقنوط فعند ذلك سيسهل قيادنا للقبول بكل ما يفرضه علينا أولئك الأعداء. وإنها وقفات من عبق تاريخ سلفنا الصالح نستحق أن نستحضرها لعل بها نداوي جراح قلوبنا ونبلل عطش شفاهنا وألسنتنا، ونجتهد في أن نضع أقدامنا على الجادة حتى لا تزلّ بنا الأقدام ولا تضل بنا السبل ونحن نجتاز صحراء دنيانا القاحلة ونثبت في موجة التثبيط والتيئيس.
بشرى بالمغفرة
عن محمد بن حرب قال: “دخلت المدينة فأتيت قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء أعرابي فزاره ثم قال: يا خير المرسلين، إن الله عزّ وجلّ أنزل كتابًا قال فيه: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} آية 64 سورة النساء. وإني قد ظلمت نفسي وجئتك مستغفرًا إلى ربي متشفّعًا بك، ثم بكى وأنشد يقول:
يا خير من دفنت في القاع أعظمه فطاب من طيبهنّ القاع والأكم
نفسي الفداء لقبرٍ أنت ساكنه فيه العفاف وفي الجود والكرم
أنت النبي الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم
وصاحباك فلا أنساهما أبدًا مني السلام عليكم ما جرى القلم
يقول محمد بن حرب: “ثم إنني نمت فرأيت النبي ﷺ في المنام يقول لي: يا محمد بن حرب: إلحق بالرجل وبشّره بأن الله قد غفر له بشفاعتي”. إنها أبيات الشعر التي كتُبت بماء الذهب مقابل روضة وقبر الحبيب محمد ﷺ، يمكن لكل زائر قبر الحبيب صلى الله عليه وسلم أن يراها. فما أعظم أن نظل على رجائنا بالله أن تنالنا وتعمّنا يوم القيامة مغفرته ورحمته وأن نحظى بشفاعة حبيبه وحبيبنا ﷺ.
إياك والظلم فإنه ظلمات يوم القيامة
مرَّ رجل من التابعين برجل أعمى العينين مقطوع اليدين مبتور الساقين منكب على وجهه ينادي بأعلى صوته يقول: “لم يبقَ إلا النار، النار، النار”. وكان كلّما نادى وتعب بالنداء عاد من جديد ينادي ويردد نفس الكلمات. فسأله ذلك التابعي الجليل عن شأنه فقال: “كنت أنا من الذين دخلوا على عثمان بن عفان الدار لأقتله، فلما كنت على بُعد خطوات منه وكنت شاهرًا سيفي، دافعت عنه زوجته وحاولت صدّي، فلطمتها على وجهها ودفعتها لأصل إلى عثمان فقال لي عثمان حين لطمت زوجته: قطع الله يديك وبتر رجليك وأعمى عينيك وأدخلك النار، وقد استجاب الله دعاءه فقُطعت يداي وبٌترت ساقاي ولم يبق إلا النار، النار، النار. كان هذا جزاءً وفاقًا على تطاول وتمادي وانتهاك حرمة بيت وزوجة الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان وزوج ابنتيّ رسول الله ﷺ وأحد العشرة المبشرين بالجنة.
اللافت والغريب وكما ذكرت كتب السيرة أن من دخلوا على عثمان وقتلوه في بيته -رضي الله عنه- كانوا يظنون أنهم بفعلهم ذلك يخدمون الإسلام وأنهم يقومون بما قاموا به قربى وطاعة لله ونصرة للدين، حتى أن ابن قُميئة لما قتل عثمان رضي الله عنه قال وقد طعنه تسع طعنات” “هذه ثلاثة لله وهذه ستة لما في الصدر”. نعم هكذا جهله أوصله إلى أن قتل عثمان كأنه في سبيل الله عز وجل وتقرّبٌ إليه سبحانه.
تمامًا مثلما نرى ونسمع اليوم من يقومون بأعمال عظيمة وموبقات وجرائم وظلم وطغيان ويلبسون ذلك أنه من أجل الإسلام، ويستوي في ذلك تنظيمات داعشية وغيرها أو حكام ظلمة وطواغيت ممن يحاربون المشروع الإسلامي ويرفعون شعار المحافظة والدفاع عن الإسلام من الغلاة والمتطرفين، وهي في الحقيقة ليست إلا لما في صدر أولئك على الإسلام من حقد أعمى، وصدور أوغرها على الإسلام أسياد هؤلاء الظالمين.
إحرص على نفسك من نفسك
إنه رجلٌ من شرار الناس يدعو كل صباحٍ بقوله: “اللهم سلّط سيفك على رقاب أعدائي”. ومضت الأيام وهو يكرر نفس الدعاء وأعداؤه بخير وعافية لم ينلهم أي أذى ولم يصابوا بسهام دعائه، بينما هو يلح في الدعاء ولم ينفد صبره، وذات ليلة وقد أوى الرجل إلى فراشه وبينما هو مستغرقٌ في نوم عميق فرأى فيما يرى النائم سيفًا بتّارًا لامعًا مسلطًا على عنقه، فصاح مرتعدًا من الخوف يقول: “إنما سألتك يا رب رقاب أعدائي ولم أسألك رقبتي”. استيقظ الرجل مرعوبًا خائفا فتوجه، إلى بيت رجل صالح فقص عليه قصته وماذا كان يدعو وماذا رأى في منامه، فقال له: “أنت شرّ عدوّ لنفسك فأجاب الله دعاءك بدأبك بفعلك السوء وقولك الأسوأ وأفكارك الآثمة، فقد آذيت نفسك أكثر مما آذيت أعداءك”. نعم لعل لكل إنسان منا أعداءً يتربصون به ويمكرون له مكر الليل والنهار، لكن الأخطر من أولئك ذلك العدو الذي في صدرك كما قال النبي ﷺ: “أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك”.
لا تداهنوا في دين الله
زيادة عمّا كان عليه الفاطميون من فساد عقائدي وأخلاقي واجتماعي، فإنهم قد وصلوا قبيل نهاية حكمهم على يد الفاتح صلاح الدين رحمه الله إلى أن تكبّر وتجبّر أحدهم وصل به الأمر إلى حد أن يستفتح رسائله بالقول: “باسم الحاكم الرحمن الرحيم”، وهو من سبق وأطلق على نفسه لقب “الحاكم بأمر الله”. وذات يوم وقد كان الفصل صيفًا والحر شديدًا في القاهرة عاصمة الدولة الفاطمية ولكثرة الحرّ فقد انتشر الذباب على وجه وحول الحاكم بأمر الله، وعبثًا حاول الخدم إبعاد الذباب بكل الوسائل فلم يفلحوا. وكان في ذلك المجلس رجلٌ تقيٌ وقد رأى الذباب يتهافت على الحاكم بأمر الله وكان جميل الصوت، فراح يتلو قول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ۚ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ۖ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ۚ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} آية 73 سورة الحج، فتحركت نوازع الخير في الناس الذين كان الحاكم بأمر الله يحاول طمسها أما إغراءً بالهدايا والعطايا وإما ترهيبًا بالقهر والسجن والقتل، وتعالت أصواتهم رفضًا لسلوك ونهج حاكم مصر يومها وكأن هذه الآية نزلت فيه خصيصًا. خاف الحاكم بأمر الله “المتألّه” من تعالي أصوات الرفض لحكمه وظلمه وأمر بسجن ذلك الشيخ الصالح وألزم أحد الأمراء بنقله في سفينة إلى جزيرة صغيرة في البحر ومن ثم إغراقه ليتخلص منه ومن تأثيره على الناس، وهكذا فعل. ذات ليلة رأى أحد أصدقاء الشيخ ذلك الشيخ في المنام فقال له الصديق: ماذا وجدت يا أخي؟ فقال الشيخ: “ما قصّر بي صاحب السفينة، فقد ظل مبحرًا بي حتى رسى على باب الجنة”.
وها هي مصر تعود لتنكب من جديد وتقع تحت حكم جبّار عنيد وطاغية رعديد، هو الانقلابي السيسي الذي ظلم وقهر وقتل وشرّد من المصريين الكثيرين، وما بقي إلا أن يطلق على نفسه لقب “الحاكم بأمر الله السيسي”، ولكن لجهل السيسي وغبائه وقلة قراءته للتاريخ فإنه يجهل أن الأيام دول، يوم لك ويوم عليك، وأن دوام الحال من المحال وأن دولة الفاطميين قد زالت، وأن حكم المتألّه الحاكم بأمر الله قد طُويت صفحته ومثله حتمًا سيكون مصير السيسي ونحن نشهد هذه الأيام حراكًا مباركًا وبداية زخم ثوري جديد رفضًا لحكم هذا الطاغية، على أمل أن الله سبحانه سيزيح عن المصريين هذا الكابوس، وإذا كانت السفينة قد حملت ذلك الشيخ إلى باب الجنة فرجاؤنا أن تحمل غضب وثورة المصريين السيسي إلى مزابل التاريخ.
العزّة بالتقوى لا بالجاه والسلطان
لما قدِم الإمام الشافعي مصر، قال له أحد أصدقائه: “إذا أردت أن تسكن هذا البلد فليكن لك قوت سنة ومجلسًا من السلطان تتعزز به”، فقال له الإمام الشافعي: “يا أبا محمد: من لم تعزّه التقوى فلا عزة له. إني ولدت بغزة وتربّيت بالحجاز وما عندي قوت ليلة وواالله ما بتنا جياعًا قطّ”. إنه جواب الواثق والموقن أن الرزّاق ليس إلا الله سبحانه وأنه {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} آية 22 سورة الذاريات. وأن ضمان الرزق ليس ولا يكون عبر التزلّف للسلطان والحاكم والتسحيج والتطبيل له ومداهنته، وأن موقف الحق وكلمة الحق لا يساوَمُ عليها بالقوت والطعام ورغد العيش والسلامة الشخصية.
إنه الشافعي رحمه الله وقد دخل عليه أحد أصدقائه وهو في النزع الأخير فقال له: “كيف أصبحت يا إمام؟ فقال الشافعي: أصبحت من الدنيا راحلًا ولإخوتي مفارقًا وبكأس المنيّة شاربًا، ولا أدري إلى الجنة تصير روحي فأهنّيها أم إلى النار فأعزيها؟”. ثم أنشد يقول:
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي جعلت الرجا مني لعفوك سُلّما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك كان عفوك ربي أعظما
هذا ما كان يُقلق الشافعي ويقضّ مضجعه: هل سيكون مصيره الجنة أم النار؟ ولكن عظيمة ثقته بربه سبحانه جعلته يطمئن إلى أن ذنوبه مهما عظُمَت فإن عفو الله أعظم. إنه الرجاء بالله وحسن الثقة به سبحانه هو ما كان عليه الشافعي وهو ما يجب أن نكون نحن جميعًا عليه. إنه سلّم الرجاء نرتقيه ونصعد به حتى نبلغ عفو الله سبحانه ومغفرته.
قلنا لهم: مستحيل!
يقول الأستاذ عامر شميخ في كتابه الرائع “إرفع رأسك يا أخي”: “إن مما يقدح في عزة المسلم أن يقدّم تنازلات لخصوم الإسلام وأعداء الدعوة. تبدأ هذه التنازلات قليلة صغيرة وتنتهي بالانحراف الكامل في نهاية الطريق، وخصوم الإسلام يدركون تمامًا أن الذي يقبل المساومة في دعوته ولو بشكل يسير في المرة الأولى فسوف يقبل بالتفريط في ما هو أكبر بعد ذلك، وهم يستخدمون مع هذا الصنف من الناس طريقة “العصر”، فكلّما وجدوا منه استجابة ضغطوا عليه من أجل المزيد، كالليمونة لا تكفّ اليد عن عصرها حتى ينفد ماؤها ولا يبقى منها سوى القشرة التي يكون مآلها سلة المهملات.
إن المؤمن المستعلي بإيمانه لا يغير جلده ولا يتدنى بالاستجابة لمُبغضه وعدوه، وهو يقبل العذاب ولا يقبل إقرار الظالم على ظلمه، ولا يداهن ولا يفرط ولا يساوم، يحذر التدليس والإفتتان والاستدراج ولا يركن إلى الطغاة ولا يتبع أهواءهم، ولسان حاله يردد:
تهون الحياة وكل يهون ولكن إسلامنا لا يهون
إذا ما أرادوا لنا أن نميل عن النهج قلنا لهم مستحيل
مستحيل وألف مستحيل ومليون مستحيل قلناها بالأمس ونقولها اليوم وغدًا وكل يوم حتى نلقى الله عز وجل. نقولها في وجه الظلمة والطواغيت، وفي وجه من يريدون منا أن نساوم وأن نداهن في ديننا ليرضى شذاذ وأقزام هذا الزمان.
ونقولها في وجه من ارتضوا لأنفسهم طريق المداهنة والمساومة والاستجداء والتذلل، نقولها ونحن نعلم أن لكلمة وموقف “مستحيل” ضريبة لابد أن تُدفع، ولكن كل الأثمان ترخص في سبيل الله ومن أجل أن تظل دعوة الإسلام نظيفة نقية صافية من كل ما يشوبها.
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا!
رحم الله قارئًا دعا لنفسه ولي ولوالديّ بالمغفرة
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.