المنظومة القضائية الإسرائيلية في ظل عدم الاستقرار السياسي
المحامي عمر خمايسي
لا يمكن عزل المنظومة القانونية القضائية في إسرائيل عن إسقاطات وتأثيرات الحالة المزمنة لعدم الاستقرار السياسي، المتمثلة في إجراء انتخابات خامسة للكنيست في غضون ثلاثة أعوام فقط. أي أن هذه الحالة، التي وُلِدت من رحم مشهد سياسي غير مستقر تطغى عليه الانقسامات والضعف والتشتت في التيارات السياسية الرئيسية، تعكس إسقاطات وتأثيرات هذه الأزمة على مناحي الحياة عامة، وعلى المنحى القانوني القضائي بشكل خاص، وهذا ما سنسلط الضوء عليه في هذه المقالة.
هناك الكثير من القرائن التي تشير بوضوح إلى أن المنظومة القانونية القضائية لا تستطيع إلا أن تتأثر من انعكاسات أزمة النظام السياسي وإسقاطاتها وتأثيراتها الكبيرة على المنظومة الاجتماعية في المجتمع الإسرائيلي، بل إن المنظومة القانونية القضائية غدت ساحة لحالة التحريض والاستقطاب وتوزيع الاتهامات بين أقطاب النظام السياسي في إسرائيل.
عشية انتخابات الكنيست الإسرائيلية الـ 25، تمثلت انعكاسات دوامة الانتخابات الإسرائيلية للكنيست، وأزمة عدم الاستقرار السياسي على المنظومة القضائية والقانونية، في المنافسة بين أقطاب الائتلاف الحكومي والمعارضة في تسجيل نقاط لكسب رضى الناخب الإسرائيلي وميوله السياسية التي تتجه أكثر نحو اليمين واليمين المتطرف المهيمن على المشهد السياسي الإسرائيلي في السنوات الأخيرة، وليس من أجل تحقيق مطالب تخدم المجتمع اليهودي، لذا شهدنا تقديم طلب لشطب عضوي الكنيست اليمينيين المنشقين عن حزب “يمينا”، عَميحاي شيكلي وعيديت سيلمان، من الترشح في الانتخابات ضمن حزب الليكود، وكذلك وجدنا طلبات لاستبعاد حزبي التجمع والقائمة الموحدة، وكلاهما من الأحزاب العربية.
مثال على أن المنظومة القضائية والقانونية قد انخرطت بشكل مباشر في السجالات الانتخابية التنافسية، قرار رئيس لجنة الانتخابات المركزية القاضي يتسحاق عميت (وهو قاض في المحكمة العليا الإسرائيلية والذي سيصبح مستقبلا -وفقا لنظامها- رئيسا لها)، الذي وافق على الالتماس الذي طالب بمنع ترشح شيكلي وسيلمان ضمن قائمة الليكود لأسباب قانونية، ورأينا كيف أن عَميحاي شيكلي لم يُخرج القاضي عميت من السجالات الانتخابية، واتهمه بأنه “سياسي متنكر وقراره فاضح ومخالف للأخلاق، وسياسي من الألف إلى الياء”، وفي المقابل قدم الاستئناف على هذا القرار، وإذ بالمحكمة العليا تلغي قرار زميلهم القاضي عميت بواقع 8 قضاة ضد قراره وتأييد قاض واحد. والمتتبع لتسويغات القرار يدرك حجم التداخل بين القضاء والقانون وبين انتخابات الكنيست. كذلك فإن هذا الأمر ينطبق على المستشارة القضائية للحكومة؛ المسؤولة عن تطبيق القانون. فالكثير من مواقفها تدل أيضًا، بحكم موقعها، على مدى انخراطها في السجالات الانتخابية التنافسية، حيث إنها حددت السقف القانوني الذي تستطيع من خلاله أن تدافع فيه عن شطب أو عدم شطب التجمع، وخاصة أمام طرحه لبرنامجه السياسي (دولة جميع مواطنيها).
إن الذي يتعمق أكثر في القرارات التي صدرت عن المحكمة العليا في شطب القوائم الحزبية، يستطيع أن يلاحظ أن سقف الحقوق والحريات في هذه الدائرة أصبح ضيقا كثيرا، وكأن السماح بخوض الانتخابات أصبح مِنّة وليس حقًا خالصا، كما ينص عليه قانون الأساس، وبالتالي فإن المحكمة دخلت دائرة مناقشة البرنامج الانتخابي للأحزاب وكأنها بذلك تعطي مؤشرا متى تستطيع أن تحظر الأحزاب وتشطبها إذا اقتربت من خط معين، مثل حزب التجمع الذي يبدو أنه يُناور سياسيا بين الخط الفاصل بين الشرعية وعدم الشرعية القانونية، وفقا للمؤشرات التي كتبتها المحكمة العليا في عدة قرارات سابقة تتعلق بشطب التجمع، فنجد أن اقتراح قانون “دولة كل مواطنيها” لم يعد يطرح منذ عام 2018 من قبل التجمع، كون المحكمة أشارت إلى أنها ترى بعين القلق على الأقل هذا الاقتراح الذي قد يضع التجمع في مخاطرة الشطب، وبالتالي يتضح حجم التدخل السافر للمنظومة القضائية في الانتخابات، بل وفي برامج الأحزاب. لذلك نجد أن التجمع وغيره من الأحزاب العربية غيرت بعض طروحاتها أو برامجها التي كانت تعمل عليها، خوفا من الشطب. مثال على ذلك ملف الأسرى الفلسطينيين الذي كان حاضرا في برامج الأحزاب العربية، التي نفذت زيارات لعائلات الأسرى وتضامنت معها جهارا، ولكن بعد الهجمة الشرسة من الأحزاب اليهودية والإعلام الإسرائيلي على أن دعم الأسرى يعني دعم الإرهاب، حدث تراجع من قبل الأحزاب العربية في ملف الأسرى. كذلك هذا السجال السياسي الانتخابي والمناكفات الحزبية بادّعاء أن التجمع لا يعترف بيهودية الدولة، يظهر عادة في فترة الانتخابات، وهو ما يدلل على عدم الاستقرار السياسي الذي ينعكس على المنظومة القانونية القضائية.
عمليا، فإن السجالات الانتخابية التنافسية تفرض على الأحزاب، في دوامة الانتخابات الإسرائيلية وأزمة عدم استقرار السياسي المزمنة، التوجه إلى المحاكم عشية كل انتخابات كنيست لتقول المحاكم كلمتها الفصل وتصدر حكمها في نهاية المطاف لصالح طرف ما. ونتيجة لذلك، وجدت المنظومة القضائية والقانونية نفسها جزءا لا يتجزأ من إسقاطات وتأثيرات الحالة المزمنة لعدم الاستقرار السياسي، بالإضافة إلى أن تدخل المحاكم (السلطة القضائية) الكبير في السجالات الانتخابية يجعلها متشابكة مع باقي السلطات وغير منفصلة عنها.
قياسا على ذلك، وفي ظل انزياح الشارع الإسرائيلي نحو اليمين المتطرف، فإن الحملات الانتخابية الدعائية لأحزاب اليمين المتطرف والساعية للوصول إلى سدة الحكم أو لتحصيل بضعة مقاعد في الكنيست، ترتكز معظمها على التحريض العنصري على المجتمع العربي في إسرائيل، وتتسابق (الأحزاب) وقياداتها في طرح مشاريع وقوانين عنصرية تستهدف العرب الفلسطينيين؛ أبناء الأقلية الأصلانية، لإرضاء ناخبيهم، كما هو حال حزب “الصهيونية الدينية” برئاسة إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريش اللذيْن جعلا من تصريحاتهما العنصرية المتطرفة ضد العرب الفلسطينيين وسيلةً ناجحة وناجعة لحصد الأصوات، حيث إن آخر استطلاعات الرأي توقعت لهما أن يحصلا على 13 مقعدا في الكنيست بعد أن كانت تحوم حول حزبهما مخاطر السقوط وعدم اجتياز نسبة الحسم. وبطبيعة الحال فإن هذه القوانين العنصرية التي تسن وتشرع في الكنيست ستكون ساحتها المنظومة القانونية القضائية الإسرائيلية التي تتولى تطبيق القانون والفصل في المنازعات المعروضة أمامها.
ينعكس هذا الأمر أيضا في استمرار اليمين الإسرائيلي بالحديث عن سن (فقرة التقييد) “פסקת ההגבלה” في “قانون أساس كرامة الإنسان وحريته” كما ذُكر في قوانين أساس الكنيست: “لا يجوز المساس بالحقوق الواردة في هذا القانون إلا بقانون يُناسب قيم دولة إسرائيل، ويهدف لتحقيق غاية مناسبة وبما لا يتجاوز الحد المطلوب أو بموجب قانون، كما ذكر، بموجب صلاحيات مفصلة فيه”، ودائما ما يتحدث اليمين عن هذه الفقرة لتكون مقترحات للقوانين التي يطرحها، والتي قد تتعارض مع الحقوق المنصوص عليها في هذا القانون الأساس، والمقصود هنا أن الأحزاب تطالب بتقييد المحكمة العليا من التدخل في القوانين التي تتعارض مع القانون الدستوري أو القانون الأساس.
بناء على ما تقدم، فإنه يظهر بوضوح الربط والتأثير المباشر لدوامة الانتخابات المتكررة وحالة عدم الاستقرار السياسي في إسرائيل على المنظومة القانونية القضائية، الأمر الذي يؤكد مرة أخرى أن برامج الأحزاب السياسية الإسرائيلية، وبخاصة أحزاب المركز واليمين واليمين المتطرف، غدت ساحة للسجالات الانتخابية التنافسية والمناكفات الحزبية تحوم حول طرح قوانين عنصرية وطرح تقييدات للمحكمة العليا لمنعها من التدخل لإلغاء هذه القوانين، مع التأكيد أنه نادرا ما تتدخل العليا في إلغاء قوانين حتى لو كانت عنصرية، لأنها تبرر دائما حالة الطوارئ غير العادية والاستثنائية لإسرائيل كدولة، ووجوب الحفاظ والدفاع عن الديمقراطية، مع أنه بعد قانون القومية ورفض العليا شطبه يؤكد أن إسرائيل هي دولة ديمقراطية لليهود فقط، وهي دولة يهودية أمام العرب كأقلية أصلانية.