مساحة خضراء.. فلا تسودوها
ليلى غليون
نخلق وفي داخل كل واحد منا منطقة جميلة، تسكن في صدورنا وتحديدًا في الجانب الأيسر منه، تكسوها نباتات الطيبة والبراءة والورود البيضاء، إنها قلوبنا التي في صدورنا، تلك المضغة الصغيرة المولودة على الفطرة الطاهرة النقية، تولد ولم يخدشها تلوث ولا تشوه ولا غبار المادية ولا خطايا البشرية، صافية كسماء ربيعية وكما الماء الرقراق العذب، متوشحة بوشاح البهاء والجمال استعدادًا للقيام بمهمتها الجليلة وبدورها العظيم الذي خلقت من أجله، مهمة تكريس وترسيخ الخير والألفة والعطف والحنان والشعور بالآخرين، مهمة إضاءة الصدور بنور الأمل والتفاؤل والسكينة وقبل كل شيء مهمة إحياء النفوس بروح الإيمان بالله عز وجل وريها بحب رسوله صلى الله عليه وسلم فهي مسكن الإيمان وهي مبعثه وموطنه.
منطقة خضراء رائعة هي قلوبنا رغم صغر حجمها، أو هكذا ينبغي أن تكون لتستمر وتنجح في مهمتها الجليلة، تحتاج منا إلى رعاية وعناية فائقة لتظل على فطرتها وجبلتها، لا يعتريها اليبس والقحط، تحتاج منَّا إلى يقظة وانتباه شديدين حتى لا تصاب بفايروس التشوه من حقد وكراهية وغل وكل عناصر الشر وما أكثرها وما أسرع عدواها وما أكثر المصابين بها، تحتاج منا إلى رواء دائم من المراقبة والمحاسبة والصدق مع النفس لتظل يانعة مدهامة.
ولكن وللأسف مع دورة الأيام ومسيرة السنين وبغفلة منا قد يهمل أحدنا منطقته هذه، بل قد تصبح عنده نسيًا منسيًا لتجف منها ينابيع الخير فتغدو صحراء قاحلة وعرة حتى الصبار لا يستطيع أن ينمو فيها لشدة قحطها وجفافها، فتتشوه وتفقد صبغتها التي نشأت عليها، فلا تجد الفضيلة ولا الطيبة فيها مكانًا لتلملم أغراضها وتلوح مودعة، وتهجرها أطيار المحبة والخير لتغدو كالكهوف والمغاور المظلمة الموحشة تنعق الغربان على أبوابها إلا أن هناك من يظل يجاهد ويكابد ويراقب لتظل منطقته خضراء ما بقي له نفس في هذه الحياة، يسقيها من جداول الخير المتفجرة في أغواره، ويتفقدها ويتعهدها بالليل والنهار لتظل في اخضرارها ونقائها وعطائها وروعتها، لا تلوثها ملوثات الماديات، ولا تتزاحم فيها أعراض الدنيا، يخاف عليها وكأنها درة ثمينة من أن يصيبها طين الحياة ووحلها ودنسها، حتى إذا غابت شمس حياته وأذنت للأفول، ظلت منطقته الخضراء حاضرة شاهدة له حتى بعد مماته يعمرها الأحياء بذكره الطيب وسيرته الجميلة ويقطفون منها أطايب الثمر.
إنها قلوبنا التي في صدورنا مناطق سهلية واسعة رغم صغرها، هكذا ولدت بدون تعرجات ولا جدران فاصلة، ولكننا، أو الأغلب منا وللأسف، قد شوهناها بصنع أيدينا وحرفنا بوصلتها عن مسارها الصحيح وحولناها إلى غير وجهتها، فلا تكاد الأيام والسنون تدور دورتها حتى تمتلئ فيها الجدران الشاهقة الفاصلة التي بنيناها بيننا وبين الآخرين، جدران من التباغض والتحاسد والخذلان، جدران من الأنانية والنرجسية والكراهية، جدران من حب الانتقام والبطش وإيذاء الآخرين، جدران شوهنا بها منظرها ومظهرها الخلاب، جدران التهمت بل قضت على كل المساحات الجميلة حتى عزلتنا عن الآخرين بل حتى عن أنفسنا، جدران أتت على براءتنا وطيبتنا وبساطتنا وعلاقاتنا وأخوتنا في رحلة طويلة، رحلة حقد أو حسد أو كراهية أو أنانية جبنا فيها شوارع حياتنا بدون استراحة ولا محطة محاسبة أو مراقبة نتأمل فيها ماذا قدمنا وماذا أخرنا، حتى غدت قلوب الكثير منا كما الأرض البور بتربتها اليابسة المتشققة لا ينمو فيها زرع ولا يرجى منها نفع تعلوها الصخور الصلبة والأشواك الواخزة.
انها قافلة الأيام ورحلة السنين تمضي على كل واحد فينا، الفائز منا من عض على منطقته بالنواجذ لتظل دائمة الخضرة معطاءة رغم كل عوامل الطقس الشديدة القاسية التي تجتاحها، يظل يحافظ عليها ويعتني بها حتى وإن خذله البعيد والقريب، حتى وإن خذله كل الناس، يبقى يلوذ بمنطقته اليانعة يستمد منها الراحة والأمان والقوة المستمدة من الخالق عز وجل لأنه ما بنى عليها جدرانًا فاصلة ولا أسلاكًا شائكة، بل ظلت على فطرتها الرائعة وقد أقام عليها جسورًا من الأمل والمحبة والخير امتدت إلى السماء وجعلها معلقة وموصولة بالله عز وجل تغشاها الرحمة والسكينة والاطمئنان حيث لا خيبة أمل ولا خذلان ولا ما يحزنون.
فلا عزاء لأصحاب قلوب شرعوا من البداية أبواب الكره والضغينة والحسد والحقد وملأوا مناطقهم الخضراء ضجيجًا وصخبًا وكرهًا حتى أضحت سوداء كظلمة الليل البهيم أو كرماد محترق تذروه الرياح، إنهم أصحاب قلوب سقيمة عليلة يتنفسون حقدًا وغلًا وينفثون سمومًا فاسدة أفسدوا بها الحياة ولن يكون حصادهم إلا الرماد ومزيدًا من الظلام والسواد. قال سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”ألاَ وإنّ في الجسد مُضْغَة إذا صَلُحَت صَلُحَ الجسد كلّه، وإذَا فَسَدَت فَسَدَ الجسد كُلُّه ألاَ وهي القلب”.