لا خير فينا إن لم نسمعها
ليلى غليون
قال رجل لخليفة المسلمين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اتق الله، فقام رجل ممن حضر ذلك المجلس وقال: أتقول لأمير المؤمنين اتق الله؟ فأجابه سيدنا عمر رضي الله عنه “دعه يقولها، فلا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم نسمعها”.
إنه التناصح، إنه التواصي بالخير، إنه الأمر بالمعروف إنها الأخوة الصادقة الشفافة التي منبعها الحب في الله والرغبة الخالصة في إحقاق الحق، بل هو العدل الذي توشح به الفاروق جعل رجلًا من عامة الناس يقف مطمئنًا على نفسه من بطش الحاكم، نعم يقف بجرأة وشجاعة وثقة لا يخشى إلا الله ليقول لعمر رضي الله عنه ما قاله دون مواربة ولا مجاملة ولا اختباء ولا خوف من عاقبة الأمور، وإنه الصدق والخوف من الله تعالى والاستعداد النفسي الذي يدل على البناء النفسي العظيم الذي يتمتع به الفاروق رضي الله عنه الذي دعا بالرحمة لمن يهدي إليه عيوبه وزلاته بالإضافة للبناء الإيماني السامق الذي تعتلي به نفسه، جعله يتفوه بتلك الدرر وهو يقول: “لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم نسمعها”. أي أدب، وأي عظمة، وأي مدرسة للعدل مدرستك يا ابن الخطاب؟!
إن هذا برأيي هو المرتقى السامق من أدب الانتقاد، وقبوله من الطرف الآخر بكل رحابة صدر وأريحية خصوصًا عندما تكون النية خالصة لوجه الله تعالى لا تبتغي سوى تصحيح الاعوجاج وتقويم الأخطاء، ولا يشم من قائله رائحة مصلحة دنيوية أو نية للتجريح أو للتقريع أو للتشفي أو رمي الكلام جزافًا.
نعم إنها جرأة يصاحبها الأدب من الشخص المنتقد وقد أمن على نفسه، وقبول وأريحية من الشخص الذي تلقى الانتقاد، هذا هو النقد البناء وهذه هي أسسه المتينة. أما أن يكون الانتقاد لمجرد الانتقاد أو لحاجة في النفس، أو أن يكون رجما بالغيب أو من خلف الستار بحيث يخوض صاحبه بالكلام في الظلام ليثبت عجزه عن المواجهة حتى لا ينكشف أمره فيتقوى على أخيه من بعيد، ويرشق انتقاده له ويختبئ، فانه حتما سيفقد مصداقيته وستحوم حوله الشبهات، ولا يمكن اعتبار ذلك إلا بطولة، ولكنها خلف الستار لا يتقلدها إلا عاجز يخشى المواجهة.
فهناك ممن يتقنون فن الانتقاد وتوجيه الملاحظات السلبية وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، ويطلقون ألسنتهم السليطة بحجة أن نواياهم لله، بل ويبتغون من ذلك نيل الفردوس الأعلى وما علموا أن الانتقاد فن وثقافة وأمانة ورحمة ومحبة هي من أخلاقيات المنتقد الصادق في انتقاده، الذي لا يخاف في الله لومة لائم، النقية نفسه من كل شائبة، البعيدة عن كل نزعة غير سوية وقد غاب عن باله حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول: (إن الله كتب الإحسان في كل شيء) والانتقاد شيء من هذه الأشياء والإحسان فيه نوع من العبادة.
ما أحوجنا لمناصحة بعضنا البعض بدون مواربة ولا اختباء، وأن يكون أحدنا لأخيه مرآة شفافة نقية يبصره بعيوب نفسه إذا رأى فيها عيوبًا، ومن فينا كامل ليس فيه عيوب؟ ما أحوجنا لإتقان أسلوب فن الانتقاد البناء الذي يجسد صورة عظيمة من الحب في الله، لأنه لله ولمنفعة عامة وليس لحاجة قاصرة لا تتعدى المنتقد ذاته، ما أحوجنا لنرتقي إلى المستوى الراقي ونكون من الجرأة بمكان التي تصاحبها الرأفة والرحمة ونحن نوجه انتقادنا البناء للغير بكل سهولة ويسر وبدون أساليب التفافية وذلك بالقول اللين الممزوج بالمحبة والأخوة. هذا إذا كنا بانتقادنا نقول كلمة حق نريد بها الفردوس الأعلى كما ندعي، وإلا فإن انتقادنا ليس إلا عبثًا ورجمًا بالغيب ومردودًا علينا، أو ربما هو نابع من حقد أو حسد تبثه نفس مريضة إرضاء لأهوائها، بل لعله الظلم بعينه والظلم ظلمات يوم القيامة. يقول الله تعالى في حديثه القدسي: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا ).
يقول الكاتب أكرم عثمان في كتابه (كيف تنتقد الآخرين وتستولي على محبتهم واحترامهم): “إن الرصيد العاطفي أهمّ بكثير مما يُسمّى بالرصيد المصرفي، وهو أشبه له إلى حد ما، فبإمكانك إيداع المزيد من العواطف والتي تضاعف الثقة بين الأطراف، وبإمكانك أيضا سحبها مما يقلل من تلك الثقة، وفي النهاية فإن كشف الحساب العاطفي يبين كم تملك من القدرة على التواصل وحل المشكلات مع الغير، والتعامل بلطف ولباقة مع الآخرين، ما هو إلا أحد إبداعاتنا في رصيدنا العاطفي”.
فالأخلاق الحسنة ومعاملة الغير باللين واللطف والرفق والرحمة من أبجديات ديننا الحنيف، وقد أرسى هذه القاعدة الصلبة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: “إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف …”.
فإن كنت منتقدًا أحدًا، فكن لبقا رفيقا في انتقادك، واستمع لقوله تعالى: (فقولا له قولًا لينًا لعله يتذكر أو يخشى). وتذكر إن كان في أخيك عيب، فإنك مليء بالعيوب، ومثلما أنك لا تسمح ولا بأي حال من الاحوال أن يجرحك أو يحرجك أحد أو يشهر بعيوبك أو ينقص من قدرك، فلا تكن سببًا في جرح كرامة الآخرين.
وبالمقابل، تقبل نقد أخيك بكل حب ورضا خاصة وأنك مطمئن لنواياه وأن انتقاده في محله لا يبتغي من ورائه سوى مصلحتك، ولا تأخذك العزة بالخطأ، فنحن من جنس البشر ولسنا ملائكة معصومين.