دمعة على الغيرة
ليلى غليون
للأسف الشديد، مشاهد ومناظر ومواقف تتكرر كل يوم بل كل ساعة بل كل لحظة، ألفتها العيون وتطبعت عليها النفوس واستساغتها الأذواق طائعة أو ربما مكرهة لا فرق، لأن النتيجة واحدة، والنتيجة أن هذه المظاهر وهذه المواقف أصبحت عند الكثير منا مشاهد طبيعية ومواقف اعتيادية لا غبار عليها، وفي أحسن الحالات قد تتلوى الشفاه امتعاضًا أو استنكارًا لهذه المشاهد ولكن على استحياء لتعود لحالتها الطبيعية لأن هذه المشاهد مصرة على البقاء حتى فرضت ذاتها فرضًا على الواقع الاجتماعي لتصبح طبيعية جدًا، لتتبخر مشاعر الامتعاض شيئًا فشيئًا، وتهزم أمام موجاتها الكاسحة التي تسعى بكل جهد لشرعنة وتطبيع كل ما هو غير عادي ولا مألوف في مجتمعنا لتضعه في خانة الطبيعي والمألوف وذلك وفق أساليب محكمة وممنهجة وتحت أسلوب (بطيء ولكنه سريع المفعول) تبلدت على إثرها المشاعر، وتخدرت من أفيونها الغيرة والحمية، بل يمكن القول إن الغيرة والحمية في كثير من المشاهد والمواقف ماتت ودفنت تحت أنقاض قيم وموروثات تخلينا عنها وفي غفلة منا استغلها المتربصون بنا من لصوص التاريخ والأعراض والقيم واتخذوها منطقة تسلل من خلالها اخترقوا خصوصياتنا وثقبوا هويتنا وشوهوا أصالتنا وجعلوا الكثير منا كالقشة في مهب عواصفهم.
لا أتحدث عن طلاسم ولا هو لغز يحتاج النقش على جدران العقل لفك رموزه، إنني أتحدث عن واقع محرق لا يزال سعار ناره يمتد دون توقف، أتحدث عن مشاهد فرضت نفسها فرضًا في حياتنا اليومية، في الشارع، في الأزقة، في المؤسسات، في المدارس، في الأسواق، في كل مكان، مفاتن معروضة، وعورات مكشوفة، وأخلاقيات بينها وبين أصالتنا الإسلامية أمد بعيد، حتى أنك في بعض الأحيان تقسم وأنت صادق في يمينك أن هذه التي أمامك ليست مسلمة، أو أن هذا الذي تراه ليس مسلمًا، لتصفعك الحقيقة التي تجبرك على أن تكفر يمينك لأن التي أمامك فعلًا مسلمة تشهد أن لا اله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وأن الذي أمامك مسلم، وتتوالى الصفعات على وجهك أكثر وأكثر حتى تجعله كشقيقة النعمان تتدفق الحمرة من عروقه من شدة الصفع عندما تعلم أن هذه أو هذا أبواهما ملتزمان يؤديان الفرائض والسنن، ولم يمض على رجوعهما من الحج والعمرة إلا قليل.
عادي جدًا
– مظاهر السفور والتبرج والملابس التي ما أنزل الله بها من سلطان أصبحت مظاهر شائعة وعادية جدًا.
– مظاهر فوضى الاختلاط في الأعراس والمناسبات والرحلات والجلسات العادية (وما في حدا غريب) (كلنا إخوة) (ما غريب إلا الشيطان) أصبحت مظاهر وعبارات عادية جدًا جدًا.
– الحرية المطلقة في العلاقات بين المخطوبين وتحطيم الحواجز بينهم، أصبحت من الأمور العادية والمألوفة.
– علاقات بين شباب وصبايا على منصات التواصل أصبحت عادية جدًا.
– خصوصيات وأمور شخصية جدًا منشورة على جدران الفيسبوك، والأمر عادي جدًا.
– أمهات يمنعن بناتهن من ارتداء اللباس الشرعي بسبب أن ذلك يعرقل زواجهن، لا بل يشجعنهن على التبرج والسفور والأمر عادي جدًا.
إنها جاهلية، ولكن..
يحكى أن أعرابيا في الجاهلية زفت إليه عروسه على فرس، فقام وعقر تلك الفرس التي ركبت عليها العروس فتعجب الجميع من حوله وسألوه عن سر عمله فقال لهم: خشيت أن يركب السائس مكان جلوس زوجتي ولا يزال مكانها دافئًا. أين هذا من بعض الأزواج الذين ماتت فيهم الغيرة على زوجاتهم فتراهم يتباهون بسفورهن وتبرجهن أمام الغرباء ولا يرون في الأمر غضاضة لو جالسنهم من غير حاجة أو مازحنهم ويعتبرون ذلك من الاتيكيت والتحضر، وما أكثر الجلسات المختلطة التي تسقط فيها كل الحواجز بين الرجال والنساء والتي تمخضت عن كوارث اجتماعية نتيجة الفوضى في العلاقات الاجتماعية وفوضى الاختلاط وسقوط الحواجز، بل إن من الأزواج من يقفون حجر عثرة أمام التزام زوجاتهم ويمنعونهن من التدين “والتعقيد”!! على حد قولهم ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المترجلة، والديوث). والديوث هو الذي لا يغار على أهل بيته.
إسلامنا دين الحياء والغيرة
لقد أثنى الإسلام على الغيرة، وشجع المسلمين عليها، وفي الحديث الشريف أن سعداً بن عبادة رضي الله عنه قال كلامًا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم دل على غيرته الشديدة، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أتعجبون من غيرة سعد؟ لأنا أغير منه، والله أغير مني).
وكما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد الخلق غيرة كان أصحابه رضوان الله عليهم أشد الناس غيرة، جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أنه في الجنة قال: (فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر، فقلت لمن هذا؟ قال: لعمر. فذكرت غيرته فوليت مدبرًا)، وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه يروى عنه أنه لما رأى الأسواق يزدحم فيها الرجال والنساء قال غيرة على نساء المسلمين: (ألا تستحيون؟! ألا تغارون أن يخرج نساؤكم؟! فإنه بلغني أن نساءكم يخرجن في الأسواق يزاحمن العلوج)، وهم الرجال الفحول من الأعاجم.
ويحكم، ألا تغارون
إنها امرأة مسلمة واحدة انتهكت كرامتها عندما كانت في سوق يهود بني قينقاع حيث جلست إلى صائغ يهودي، فأخذ اليهود يطلبون من هذه المرأة المسلمة أن تكشف لهم وجهها، فأبت ورفضت أن تكشف وجهها، فعمد الصائغ اليهودي إلى طرف ثوبها وربطه إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت عورتها، فضحك اليهود عليها، فجلست وصاحت، لتثور الحمية في رجل من المسلمين من أهل الغيرة على حرمات المسلمين كما البركان الثائر ليسرع إلى الصائغ فيقتله، فحاصرت اليهود هذا المسلم فقتلوه، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاصرهم، ثم أجلاهم عن المدينة.
نعم ثارت ثائرته لانكشاف عورة مسلمة واحدة، فما بالنا وانكشاف العورات في كل مكان ولا تثور غيرة ولا تهب حمية ؟!
كم في الأمة مثل الزبير؟
ويذكر عن الزبير أنه تزوج امرأة فكانت تخرج إلى الصلاة في المسجد فيرغب إليها بعدم الخروج، فتلح عليه لأجل الصلاة، فخرجت مرة، فكمن لها في الطريق فلما مرت قرص عجيزتها، فرجعت من فورها إلى بيتها وهي تسترجع وتستغفر، فامتنعت من الخروج بعد ذلك، فسألها الزبير عن سبب ذلك، فقالت: “كنا نخرج يوم كان الناس ناسًا، فلما تغيرت قلوبهم تركنا الخروج”.
وإن كنت أذرف دمعة على الغيرة، فإني أذرف دمعتين على المروءة وأهلها ممن يؤثرون السكوت ولا يحركون ساكنا بحجة هذه متطلبات العصر، أو أن هذا الجيل عنيد وما بسمع الكلام، يرون الحياء يخدش جهارًا، يرون حروبًا شرسة تشن على مجتمعنا، حروبًا لا تستهدف دماءنا ولا أرواحنا ولكن تستهدف انتزاع الحياء وسقوط منظومة القيم والأخلاق لنصبح في عداد الموتى ولو كنا ندب على ظهر الأرض، ولنصبح في عداد المفقودين الغرباء ولو كنا نعيش في عقر ديارنا.