أبناؤنا تهديدات موقوتة!!
الأسير محمد اغبارية- سجن جلبوع
قد ينفر الوالدان من ابنهما العاق ولا يحبانه، غير أنهما لا يكفان أبدا في السهر على رعايته والدأب على تغييره، إذ إن شرَّه وخيره سيعود عليهما بلا محالة.
وكذلك مجتمعنا العربي التواق للسلم والأمن والأمان، فقد ابتُلي بمخزون شباب عاق لمجتمعه، وبحكم سطوة الظروف القاسية المقصودة، فهو يتزايد في كل عام. لكنهم أبناؤنا ويجب أن نسهر على تغييرهم والعمل على احتوائهم، لا أن نرجمهم أو نلعنهم.
وأقصد بهم مخزون الشباب المعطّل عن العمل والمتسرب من المدارس؟ فهذا المخزون الغارق في الفراغ، تعج بهم الأزقة، ليسوا هم المشكلة، بل هم افراز لها، وليسوا هم العدو لمجتمعنا، بل هم الضحية المضيّعة، فهم ككل شريحة شباب في أي مجتمع يتلمس طريقه نحو هويته المتميزة، وأحلامه الخاصة، يتطلع بفطرته إلى أفق واعد يحقق فيه ذاته. لكنه ماذا يصنع، وهو في مرحلة البحث عن الذات، قد سيق إلى طريق غير الطريق الذي أراده، وإلى أفق، الله وحده ثمَّ المدبرون أمرًا يعلمون ما يكمن لهم وراءه.
فلا ينبغي أن نكون عونًا للشيطان عليهم، أو أن نستمر في نهش لحمهم، ولا يجب ان ندعهم أو ندفعهم ليكونوا نهشا سهلا لعصابات الإجرام.
ففي المجتمع اليهودي، الدولة تلتقط مثل هؤلاء واحدا واحدا، وتحاول إعادة تأهيلهم للانخراط في الحياة من جديد عبر الضخ بهم في صفوف الجيش لتعديل مفاهيمهم ولصقل شخصياتهم، ثمَّ منحهم فرصة ثانية.
وهذا بالضبط ما تفتقده هذه الشريحة من شبابنا في الداخل، فالدولة في وسطنا العربي غير حاضرة، وليست معنية بهم أصلا، لذا كان ينبغي على الأحزاب العربية والحركات والمجتمع المدني والسلطات المحلية ولجنة المتابعة أن تملأ هذا الفراغ وتنهض بمسؤولياتها تجاههم، لا أن تتركهم مخزون احتياط جاهزا للسقوط في براثن الجريمة ومرشحا للزيادة كل عام، ما بقيت سلطات الدولة مصرّة على عدم بناء مناطق صناعية في المناطق العربية تستوعبهم فيها، أو مراكز تأهيل مهني. ولأن هذا غير متوقع فإن هذا المخزون عندنا مرشح لأن يتحول إلى قنبلة اجتماعية موقوتة تنذر بمزيد من الانفجارات المدمرة لمجتمعنا والممزقة لنسيجنا، إلا إذا تداعت قيادات المجتمع إلى محاولة إيجاد حلول وتطبيقها.
فلو نظرنا إلى أراضي الضفة الغربية، فإن كثيرا من هذا المخزون بحكم الظروف هناك ينخرط في مناهضة الاحتلال ومنهم من يتعرض للأسر لسنوات، وبسبب حياة السجن القاسية واهتمام قدامى الأسرى بهم يعاد تأهيلهم على نحو أفضل وكثير منهم اعترف أمامي أنه خرج من السجن أنضج وأقوى، إذ خرج مؤهلا أكثر للتعامل الاجتماعي وأفضل في إدارة حياته، وأكثر إحساسا بالمسؤولية المجتمعية.
فمن هنا تتضاعف عندنا أهمية السهر والاهتمام بهذا المخزون من الشباب، لا سيّما إذا عرفنا أن نسبة الفلسطينيين في الداخل الذين تقل أعمارهم عن 17 عاما تبلغ 46%.
فلجان المصالحة مثلا على بالغ أهميتها فهي لا تقارب هذا المخزون، إذ أنها تصلح لجرائم القتل والثارات بين العائلات، وقد ساهمت بالفعل في الحد من الاستطراد بهذا النوع من القتل والثأر، لكن هل تصلح هذه المقاربة مع القتلة الذين حرموا الطفلة مريم من اللد، من أمها واختها أمام اعينها كما حرموها من وداعهما الأخير، أو هل تصلح مع قتلة الصحافي الفحماوي المحبوب نضال اغبارية.
فلا شك أن هؤلاء القتلة كانوا من هذا المخزون، فالسباق إليهم وإدراكهم وانقاذهم واجب ديني ووطني، إذ بإنقاذنا واحدا منهم فإننا عمليا أحيينا نفسا (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا..).
ولماذا لا تستحدث لنفسها الأحزاب العربية وظائف اجتماعية تساهم في فكفكة هذا المخزون، عبر البحث عنهم في الشوارع، واحدا واحدا، واستدراجهم لمراكز إيجاد الذات بفتح بدائل وخيارات أمامهم، ثقافية وأدبية ورياضية وغيرها؟! غير أننا للأسف لا نشعر بنشاط ووجود هذه الأحزاب إلا قبيل كل انتخابات.
ولماذا لا تتحرر لجنة المتابعة من آليات الماضي وأدائها التقليدي وعقدة الخوف، وتبدأ تتصرف كهيئة قيادية حقيقية ومسؤولة، كأن تفرز لجنة مصغّرة تتابع المستجدات اليومية وأن تستحدث آلية مستدامة لجمع التمويل من جماهير شعبنا وأثرياء الوطن وحتى من الخارج لصندوق مال اللجنة. ولماذا لا تنشئ كشافة للشبيبة وعينها على هذا المخزون على مستوى قطري، وتغذيتهم بقيم إيجابية وتنمية حس المسؤولية الاجتماعية لديهم حتى يكون لحياتهم معنى. ولماذا لا ترعى مسابقات سنوية مع جوائز- بحضور إعلامي- للشباب المبدع والمتفوق في كافة المجالات؟ ولماذا؟ ولماذا؟
يبدو أن هذا يحتاج إلى قيادة تخطط للمدى البعيد، وتفكر على مستوى وطن ومستوى شعب، يؤرقها جراحات جسمنا النازف وتؤلمها مشكلاتنا كأنها ألمها الشخصي، قيادة تتردد في صدرها أصداء جراح الشابة الأرملة والأم الثكلى، وتلاحقها بلا توقف صرخات آلاف المصابين.. قيادات نذرت نفسها وحياتها لهذا الشعب الميتّم!! لكنها الإرادة، والرؤية، والنفس الطويل.