خرجوا من “سجن نهر البارد” بحثا عن حياة.. ناج من غرق “قارب طرطوس” ومفجوعون يتحدثون عن المأساه..
كعائد من الموت، يتلعثم الممرض الفلسطيني محمد إسماعيل باستقباله الأهل والجيران، يباركون نجاته ويترحمون على زوجته سهى وأطفاله رائد وريم وكريم.
عصفت الرياح والأمواج بالقارب، فتعطل بعد إبحاره نحو 7 أميال من شاطئ المنية شمالي لبنان، وفق شهادة الناجي إسماعيل. يحبس دموعه، ويتابع “صرخنا، استغثنا، بعضنا احتضن الآخر وشد على يده وكأن زلزالا يدكّ تحت أقدامنا، فانقلب القارب، وتهاوينا على مرأى بعضنا تحت سطح الماء، وأدركنا أن الغرق محتم”.
ومثل عائلات لبنانية وسورية وفلسطينية كانت على متن القارب، لم يتمكن إسماعيل من إنقاذ عائلته. “مددتُ يدي نحوهم، ولا أتذكر سوى صراخ زوجتي وصوت أطفالي يرتجف: يا ماما يا بابا”. صمتوا واختفوا، فأدرك الرجل الذي يحترف السباحة أن أفراد عائلته غرقوا وماتوا.
بقي إسماعيل يسبح نحو 30 ساعة، من ظهر الأربعاء حتى مساء الخميس 23 سبتمبر/أيلول، كما يقول. “لم أعرف إن كنت أمام الساحل اللبناني أو السوري، سبحتُ نحو ضوء يشع لعله من شاطئ ما، فوصلت وعرفت أنني بطرطوس السورية”.
يروي الرجل المصدوم ما أصابه كمشاهد لفيلم تراجيدي، بعدما رسم مع زوجته وأطفاله أحلاما وردية ظنوا أنها ستتفتح بوصولهم لبرّ إيطاليا، هربا من “سجن مخيم نهر البارد” كما يصفه.
وسدد ضحايا القارب، لبنانيين وسوريين وفلسطينيين، مبالغ طائلة ومتفاوتة لمهرب الرحلة. يقول إسماعيل: “دفعت لصاحب المركب اللبناني بلال ديب عبر وسيط بالمخيم 10 آلاف دولار عن عائلتي، وهي المرة الرابعة التي حاولنا الهرب معه، بعدما وعدنا أن نبحر بمركب كبير مجهز، وأنها ستكون كرحلة سياحية لا تحمل أكثر من 50 مهاجرا. فصدمنا بالواقع، وأبحر القبطان بنا تحت تهديد المهرب وشقيقه ومرافقيه”.
وكان إسماعيل على متن قارب انطلق من ساحل المنية شمالي لبنان الأربعاء 21 سبتمبر/أيلول، ويحمل مهاجرين لبنانيين وسوريين وفلسطينيين، كانوا سواسية بمواجهة الموت، ناهز عددهم 150مهاجرا وفق تقديرات غير رسمية، متجها إلى إيطاليا، فغرق قبالة ساحل طرطوس السوري الجمعة 23 سبتمبر/أيلول. عثر حتى الآن، على نحو 100 جثة، بينها نحو 40 مجهولة الهوية، ونجا نحو 20 فقط.
فاجعة البارد
كان للفلسطينيين حصة كبيرة من المأساة. وهنا، يقوم مخيم نهر البارد ولا يهدأ، كمجلس عزاء جماعي، وتتألم بعض عائلاته بحثا عن مفقودين بين الجثث المشوهة، كآخرين من العائلات اللبنانية والسورية.
وعثر أهالي المخيم على نحو 9 جثث، من بين نحو 35 فلسطينيا من “البارد” كانوا بالقارب، مع 4 فلسطينيين آخرين من مخيم شاتيلا ببيروت ومحيطه. نجا 3 فقط منهم: إسماعيل وإبراهيم شكري من مخيم البارد، وجهاد مشلاوي من محيط شاتيلا.
في “البارد”، توجهنا إلى منزل عائلة صفاء حماد (27 عاما) التي قضت غرقا مع زوجها القبطان أسامة حسن (37 عاما) ولم يُعثر على جثامين أطفالهم الأربعة، أكبرهم حسن (10 سنوات) وأصغرهم ليا (سنة و9 أشهر)، وبينهما حسان ونهال. وهناك، تتجلى بعض الحقائق على لسان ذويهم.
تمسك دعاء صورة شقيقتها صفاء وأطفالها مرددة “هم أكثر من تعرضوا للتهديد بالقتل قبل إبحار زوجها بالمركب”.
تتقاطع رواية أهل صفاء مع ذوي ضحايا آخرين قابلتهم. وبحسب هؤلاء، وفور تلقي اتصال سريع، توجهوا ليل الثلاثاء 20 سبتمبر/أيلول إلى شاطئ المنية الذي يبعد بضع كيلومترات عنهم، بعد 4 محاولات هرب أفشلها ديب سابقا رغم تقاضيه مبالغ من المهاجرين منذ نحو 4 أشهر، تراوح معدلها بين 3 آلاف 5 آلاف دولار على كل فرد.
تقول دعاء “اتصلت بنا صفاء ليل الثلاثاء، وأخبرتنا أن زوجها سيساعد بقيادة المركب لأن لديه خبرة واسعة بالبحر، وكانوا يريدون التوجه إلى بلجيكا بعد إيطاليا وحضروا أوراقهم لهذه الغاية”.
ولاحقا، أرسلت صفاء تسجيلات صوتية لشقيقاتها تخبرهن أنهم صدموا بعدد هائل من المهاجرين وبصغر المركب، ولن يستطيعوا العودة لأن صاحب المركب بلال وشقيقه يوسف مع مسلحين آخرين يجبرون زوجها على الإبحار بهم رغم تأكيده أن المركب لن يصل إلى إيطاليا.
ويقاطعها عبيدة حماد شقيق صفاء متابعا “عرفنا أن المهرب ورفاقه المسلحين كانوا على مركب آخر، وبعدما ضمنوا أن أسامة أبحر وابتعد عن الشاطئ، لاذوا بالفرار”.
يبكي الأخوة على صفاء وأطفالها المولعين بهم، وتقول إحداهن “ضاع شبابهم، استدانوا للهرب من يأسهم، فوقعوا ضحية تاجر جشع تلاعب بهم”.
وألقى الجيش اللبناني القبض على المهرب بلال ديب في 21 سبتمبر/أيلول، واعترف بأفعاله بتهريب مهاجرين غير نظاميين عبر البحر، وكانت مصادر أمنية قد أشارت للجزيرة، إلى أنه تمكن سابقا من تهريب قاربين من شمالي لبنان على متنهما مهاجرون لبنانيون وسوريون وفلسطينيون إلى أوروبا.
من البارد إلى الموت
كلما توغلنا في “نهر البارد” حيث يعيش نحو 30 ألف فلسطيني، وهو واحد من 12 مخيما فلسطينيا بلبنان، تتكثف سمات مأساوية لعيش اللاجئين، ويتشاركون بكثير منها مع أقرانهم اللبنانيين واللاجئين السوريين، وتبدو جوابا تلقائيا لدى السؤال: لماذا يتوق هؤلاء للهجرة غير النظامية من لبنان إلى أوروبا؟
غير أن مخيم نهر البارد الذي يقع ضمن نطاق بلدية “المحمرة” بعكار، مصبوغ بمآثر الاشتباكات الدامية التي شهدها في 2007 بين قوات الجيش اللبناني وعناصر فتح الإسلام، وتسببت بدماره وهجرت نحو 27 ألفا من سكانه.
حواجز أمنية مشددة عند مداخله ومخارجه، ومعظم أبنيته متصدعة منخورة بالرصاص، وغير مأهولة. أرضه مفروشة بالحصى، وحُفرها تحولت مرمىً للنفايات العشوائية. أسلاك كهربائية متداخلة تحجب الأفق وتؤثث أسقف المخيم. أطفال خارج المدارس يلهون بالحارات، وبعضهم يساعدون الرجال بحفر قبور جديدة لضحايا المركب.
تاريخيا، أنشئ مخيم “نهر البارد” عام 1949 عقب النكبة الفلسطينية، وشكل لعقود شريانا اقتصاديا بشمالي لبنان، وارتبط مع جواره بعلاقات متينة نتيجة حالات المصاهرة مع اللبنانيين، فكان مقصدا للتعامل التجاري. كما أعطاه موقعه بعدا إستراتيجيا، لتداخله بالبحر وتوسطه محافظة عكار وقربه من الحدود السورية الساحلية عند العريضة شمالا.
ويُحكى أن المخيم كان في الستينيات والسبعينيات نقطة مركزية لعمليات تهريب البضائع نحو سوريا وبالشراكة مع تجار لبنانيين.
لكن بعد معارك 2007، أضحى “البارد” كسجن كبير وفق روايات أهله وجيرانه بعكار، ولم يُنجز مشروع إعادة إعمار المخيم الذي تكفلت به ماديا الدول المانحة بمؤتمر فيينا عام 2008.
في حين يعتقد كثيرون أن لبنان برمته، وتحديدا بمناطقه الطرفية كالشمال، أشبه بسجن لساكنيها بعدما سحقتهم الأزمة الاقتصادية، فدفعت المئات لرمي أنفسهم بحرا بقوارب غير آمنة، لمواجهة خيارين: إما الوصول لحياة أخرى بصفة “لاجئين مهاجرين” بأوروبا، وإما الموت.
وعلى مدار سنوات، بدأت تنشأ أبنية سكنية مرتفعة بمحيط مخيم “البارد” غطت واجهته، فعمقت عزلته، خصوصا أن حواجز الجيش تقلق نفسيا أهالي الجوار الذين يتفادون دخول مساحات تخضع لإجراءات أمنية مشددة.
وعند إحدى جدران المخيم التي طبعت بشعارات “العودة” لفلسطين، تجتمع النسوة لشراء بعض حبات الخضار بثمن بخس.
ويقول البائع أبو مصطفى “نعيش فقرا وحرمانا لم نعهده، وكأننا متروكون للموت داخل المخيم أو برحلات الهروب، بينما نعجز عن العودة إلى وطننا”.
ويقول أحد ناشطي “البارد”، يتحفظ عن ذكر اسمه، للجزيرة نت: “إن مخيمنا يفرغ من الشباب، معظمهم يرغبون بالهجرة مهما ارتفعت حصيلة الغرق. والمحاولات مستمرة. هنا، نشعر أننا منبوذون، مقابل ضعف دور الفصائل الفلسطينية، وتلاشي خدمات الأونروا، واختزال العلاقة مع الدولة اللبنانية بالبعد الأمني”.
وعلى بعد مسافات منه، يتكئ ناصر فرغاوي على حائط منزله مكسورا، يحمل صورة نجله محمود (21 عاما)، مناجيا المعنيين الإسراع بإجراء فحوص الـ DNA، “لأننا لم نجده بين الجثامين المجهولة الهوية بمستشفى الباسل السوري”.
ويقول الوالد المفجوع، إن ابنه لم يستجب لنصائحهم بعدم الهرب بعدما دب اليأس بنفسه وفقد الأمل بعمل لائق لتأسيس مستقبله.
وفي آخر لقاء بينهم، جاء محمود، مسرعا للمنزل لأخذ حقيبته، وقال لوالديه: “كل مرة أودعكم تفشل السفرة، هذه المرة لن أقبلكم وأودعكم، اتصل بنا المهرب، وستكون آخر محاولة لي، إن فشلت لن أكررها”.