العلّامة القرضاوي.. مدرسة للتوفيق بين مبادئ الإسلام والحياة
ساهر غزاوي
إنّ وفاة العلّامة يوسف القرضاوي الرئيس المؤسس للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، تستوقف الكثير منا للحديث عنه (رحمه الله تعالى) وعن مواقفه الداعمة والمناصرة لقضايا الأمة وخاصّة قضية فلسطين والقدس والمسجد الأقصى المباركين، وتستوقفنا وفاته للحديث عن انجازاته العلمية والعملية في المجال الديني والدنيوي. وهنا لا بدّ من لفتة سريعة، إلى أن الشيخ القرضاوي ليس في درجة (الداعية) مع كل الاحترام والتقدير للدعاة الأفاضل حيثما كانوا، كما تصفه بعض وسائل الإعلام العربية المحلية والعالمية في نشرها لخبر وفاته أو الحديث عنه، إنما هو في قيمة (العلّامة) الذي تفوق درجته حتى العالِم وتتخطّاها، وهذا ما شهده العلماء للقرضاوي أنه كان مجددًا إسلاميًا عالميًا فريدًا في هذا العصر.
والقرضاوي يُعد من أبرز علماء الشريعة في العصر الحاضر وأحد أعلام الإسلام البارزين في العلم والفكر والدعوة في العالم الإسلامي، وهو واسع العلم غزير الإنتاج، يضرب بسهم وافر في الخطابة والأدب والشعر، ومن أكثر الدعاة المعاصرين قربًا من الجماهير وتأثيرًا في الشعوب، وهو صاحب مدرسة التيسير والوسطية القائمة على الجمع بين مُحْكَمات الشرع ومقتضيات العصر. وفق ما يشهد له.
الراحل العلّامة يوسف القرضاوي هو خير مثال يُحتذى به للتوفيق بين مبادئ الإسلام والحياة، كما نعاه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وبرنامج (الشريعة والحياة) على قناة الجزيرة الذي ازدادت فيه شهرة الشيخ القرضاوي على النطاق العربي والإسلامي، الذي كان يُناقش فيه مواضيع شتى منها التربوية، الاجتماعية، السياسية، الاقتصادية وفقًا للفقه الإسلامي، ووفقًا لمقاربته للإسلام القائمة على الوسطية والاعتدال، لهو خير دليل على مدرسة العلّامة القرضاوي للتوفيق بين مبادئ الإسلام والحياة.
عمليًا، فإن ضرورة التوفيق بين مبادئ الإسلام هو من أكثر ما أشغل العلّامة القرضاوي عبر عمر طويل وما دفعه لإجراء الإصلاحات العملية للدفع بالمشروع السياسي الكليّ في المجتمعات المسلمة التي أثمرت عن تأليف مئات الكتب والنشرات وآلاف الساعات من المحاضرات والخطب العامة، ومنها تأليف كتاب (الدِّين والسياسة.. تأصيل ورد شبهات)، هذا الكتاب الذي هو بحث كتبه القرضاوي عن “الدين والسياسة” استجابة لما طلبته منه الأمانة العامة للمجلس الأوربي للإفتاء والبحوث، ليفتتح به الندوة التي عقدها المجلس في دورته السادسة عشرة عام 2006 حول “الفقه السياسي للأقليات المسلمة في أوربا”، فعلاقة الدين بالسياسة من أهم الموضوعات التي شغلت المسلمين وغير المسلمين، وهذا الموضوع كثيرًا ما أثيرت حوله الشبهات من العلمانيين الذين يرون ضرورة الفصل بينهما، لما تضر بالمجتمع والأمة، وفق نظرهم، ويرد القرضاوي في كتابه على كل هذه الشبهات ويفنّد ادّعاءاتها ويُبين عوارها دون أن يلقي القول على عواهنه، إنما يعتمد فيما كتبه على آية محكمة، أو حديث صحيح، أو دليل شرعي معتبر، أو منطق عقلي سليم، وربطه بالواقع الراهن- الواقع الحقيقي لا المتوهم-.
نعم، العلّامة القرضاوي مدرسة للتوفيق بين مبادئ الإسلام والحياة، ولا أدّل على ذلك من هذا الكتاب الذي يتحدث القرضاوي فيه عن القضايا المتعلقة بالدين والسياسة ويناقشها مناقشة علمية في أبواب الكتاب الخمسة وفصوله الخمسة عشر التي تقع في 242 صفحة، ويرد الشبهات على من ينكر شمولية تعاليم الإسلام، من علمانيين وحداثيين وماركسيين وغيرهم ممن لا يرون العلاقة بين الدين والسياسة إلا علاقة التضاد والتصادم. ويثبت العلّامة القرضاوي بمنهجية علمية أن الدين ليس مقصورًا على المسألة الروحانية، ويثبت في المقابل أن السياسة ليست دائما علمانية أو لا دينية، ففي الوقت الذي يشدد فيه القرضاوي على أن مقولة: “لا دين في السياسة” لا تلتزم بالقيّم والقواعد الدينية، وإنما هي “براجماتية” تتبع المنفعة حيث كانت، وترى أن المصلحة المادية فوق الدين ومبادئه، وأن الله وأمره ونهيه وحسابه، لا مكان له في دنيا السياسة، فإنه يشدد أيضًا أن الذين زعموا أن الدين لا علاقة له بالسياسة، لطالما لجأوا إلى الدين ليتخذوا منه أداة في خدمة سياستهم، والتنكيل بخصومهم، وطالما استخدموا بعض الضعفاء والمهازيل من المنسوبين إلى علم الدين، ليستصدروا منهم فتاوى ضدّ من يُعارض سياستهم الباطلة دينا، والعاطلة دنيا، كما جاء في صفحة 104.
من القضايا التي يطرحها العلّامة القرضاوي في كتابه ويرد عنها الشبهات ويفنّد ادّعاءاتها والتي لا بدّ من ذكرها ولو على عجالة، هي تهمة “الإسلام السياسي” ويرى أنها من التعبيرات التي يُشنّع بها العلمانيون والحداثيون، وهي عبارة دخيلة على مجتمعنا الإسلامي، ويطلقونها للتنفير من مضمونها، ومن الدعاة الصادقين، الذين يدعون إلى الإسلام الشامل، بوصفه عقيدة وشريعة، عبادة ومعاملة، ودعوة ودولة. هذه التسمية “الإسلام السياسي” يُبين القرضاوي أنها تقوم على تجزئة الإسلام وتفتيته بحسب تقسيمات مختلفة، فليس هو إسلامًا واحدًا كما أنزله الله، وكما يُدين به المسلمون، والإسلام لا يمكن إلا أن يكون سياسيًا وله موقفًا واضحًا، وحكمًا صريحًا في كثير من الأمور التي تُعد من صلب السياسة، ثم إن شخصية المسلم شخصية سياسية كما كونّها الإسلام وصنعتها عقيدته وشريعته وعبادته وتربيته- لا يمكن أن تكون إلا سياسية، إلا إذا ساء فهمها للإسلام، أو ساء تطبيقها.
يضيق بنا المجال للتوسع أكثر في هذه المقالة، ولا يسعني في الختام إلا أنصح الجميع، مسلمين وغير مسلمين، قراءة وتدارس هذا الكتاب جيدا (الدِّين والسياسة.. تأصيل ورد شبهات)، الذي يعطينا ترجمة علمية وعملية لمدرسة العلّامة القرضاوي (رحمه الله تعالى) للتوفيق بين مبادئ الإسلام والحياة.