شعبنا سيفشل ضرباتهم الاستباقية
الشيخ كمال خطيب
بينما فرعون سادر في غيّه يعيش زهوة الألوهية {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} آية 38 سورة الأعراف، ونشوة الأنا {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ} آية 24 سورة النازعات. وهو يستعبد بني إسرائيل، وإذا بكبار الكهنة يخبرونه أن في قراءتهم لطالع الأيام فقد تبين لهم أن طفلًا سيولد لأحد عبيده من بني إسرائيل، وأن هذا الطفل سينزع ملكه ويهدم عرشه، فكان القرار الحازم والضربة الاستباقية التي قام بها فرعون بعد مداولات مع كبار كهنته أن يتم قتل كل طفل ذكر يولد لبني إسرائيل ، بينما تترك المواليد من الإناث {وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ۚ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} آية 6 سورة إبراهيم.
كانت الضربة الاستباقية من فرعون وكهنته لأنهم علموا أن تحولًا استراتيجيًا سيطرأ، وأن هؤلاء العبيد والمستضعفين سيتحولون إلى أداة ووسيلة هدم لأركان حكمه قد يصل إلى حد الزوال وفق قراءة الكهنة، فكان لا بد من مواجهة ذلك ووضع الخطط المناسبة.
ومثلما حصل مع كهنة فرعون، فإن هذا ما حصل مع كهنة السياسيين والأمنيين الإسرائيليين بعد انتفاضة الأقصى التي كانت بدايتها في مثل هذه الأيام من العام 2000، في 28/9/2000 حين قام شارون باقتحام وتدنيس المسجد الأقصى المبارك ودخول أبناء شباب الداخل الفلسطيني على خط الانتصار للمسجد الأقصى المبارك والتحامهم مع أبناء وشباب الشعب الفلسطيني في نفس موقف الانتصار للمسجد الأقصى المبارك.
لقد رأى كهنة السياسيين والأمنيين وباحثي مراكز الدراسات الإسرائيليين ،أن هذا يعتبر تحولًا استراتيجيًا من أبناء الداخل الفلسطيني حيث تبين فشل مشاريع الأسرلة ومسخ الهوية الذي مورس ضدهم منذ النكبة، فكان لا بد من ضربة استباقية، ولا أرى هذه الضربة إلا اعتماد سياسة انفلات السلاح وغض الطرف عن ترويجه وعن تشكل عصابات الجريمة المنظمة، ولاحقًا حسابات الابتزاز و”الخاوة” وشبكات إقراض الأموال الربوية فيما عرف بالسوق السوداء.
ومن يرى ويتتبع واقع الحال الاجتماعي في الداخل الفلسطيني، فإنه يدرك بما لا يدع مجالًا للشك أن ما يحدث ليس أمرًا عفويًا ولا هو وليد الصدفة، وإنما هو مشروع منظم وسياسة مرسومة، حتى لو لم يتم الإعلان عنها وتبنيها رسميًا. صحيح أن هذه السياسة والضربة الاستباقية قد أتت أكلها مما زاد من جرائم القتل، حيث المعدل جريمة قتل كل أربعة أيام، وحيث عصابات الابتزاز وتجارة المخدرات بكل أنواعها، وحيث تجارة السلاح ووجود تسعيرة له مثل أي سلعة تعرض في السوق.
لكن ومع ذلك فإنني على يقين أن هذه السياسة ستفشل وأن هذه الضربة الاستباقية ستتحطم على صلابة الموروث الديني والحضاري والأخلاقي الأصيل لمجتمعنا، حيث أصالة هذا الشعب وجوهره الثمين سيبدد ويزيل إلى الأبد ذلك الغبار الذي به حاولوا أن يطمسوا ويشوهوا أصالة وهوية شعبنا وفي مقدمته الشباب منهم ليصدق فيهم قول الشاعر:
يا فتية الإسلام كيف صنعتموا فخرًا على التاريخ يبقى الأكبرا
ما سرّكم من أي عرق نسلكم من أي أصلاب الأسود تحدّرا
قالوا: فلسطين الحبيبة أمنا وبترب أقصانا تحدّر ما ترى.
من أحمق الناس ومن أحقر الناس؟
قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لجلسائه: أخبروني بأحمق الناس. قالوا: هو رجل باع آخرته بدنياه. فقال عمر: ألا أنبئكم بأحمق منه؟ قالوا: بلى. قال: هو رجل باع آخرته بدنيا غيره”.
ما أكثرهم الحمقى في هذا الزمان، فليس أن هؤلاء أغبياء ،ولا أنهم أميون لا يعرفون القراءة ولا الكتابة ولا أنهم لا يحملون الشهادات ولا أنهم عاطلون عن العمل، وإنما هم على العكس من ذلك كله، إن حمقى هذا الزمان هم مثقفون ومتعلمون وأكاديميون ويحملون أعلى الشهادات، إنهم يحملون شهادة دكتور وبروفيسور، إنهم صحفي بارع وكاتب موهوب وشيخ مشهور وفنان معروف، ولكنهم أحمق الناس، ليس فقط لأنهم باعوا آخرتهم من أجل الدنيا وهي الحماقة بعينها ولكنهم ذهبوا لأبعد من ذلك لما باعوا دينهم من أجل دنيا غيرهم. إنهم يكذبون وإنهم يشهدون شهادة الزور، وإنهم يفتون الفتاوى، وإنهم يتربعون على عرش شاشات وسائل الإعلام يمجدون الظالم ويبررون له ظلمه. بل إنهم الذين يسجنون ويقتلون وينتهكون الأعراض وكل ذلك من أجل شخص شطح به غروره وخياله بعد إذ أصبح صاحب جلالة أو فخامة، إنه أصبح قريبًا من أن يصبح إلٰه يعبد، فما أحمقه وما أحمق أتباعه.
وإذا كان هذا هو أحمق الناس في مفهوم عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فإن أحقر الناس في مفهوم هتلر “غضب الله عليه” وقد سئل: من أحقر الناس ممن قابلتهم في حياتك؟ فقال هتلر: أحقر الناس هم الذين ساعدوني على احتلال أوطانهم.
فإذا كان أحمق الناس هم من باعوا آخرتهم بدنيا غيرهم، فإن أحقر الناس هم من باعوا أوطانهم لأعدائهم، وساعدوا الأعداء باحتلال الأوطان مقابل أموال أو مناصب أو غير ذلك. وسواء كان ذلك الاحتلال عسكريًا أو فكريًا أو ثقافيًا، فإن كل من يساهم بالتمكين للأعداء عبر اختراق سياسي أو عسكري أو فكري أو أخلاقي فإنه أحقر الناس في مفهوم هتلر، فكيف لا يكون ذلك في مفهوم المسلم الذي قال له ربه سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} آية 1 سورة الممتحنة.
علق قلبك بالله
في الزمن الصعب الذي نعيش، وفي الظرف العصيب الذي نمر به، وفي أيام الفتن التي تمر بنا كقطع الليل المظلم، وفي زمن الخيبة من كثير من الناس، وفي زمن التنازل عن الثوابت من أجل المصالح، وفي زمن بيع الآخرة بدنيا الناس، وفي زمن خيانة الأمراء ونفاق العلماء وسطوة الأعداء، في زمن فيه يخون الأمين ويؤتمن الخائن ويتكلم في الناس الرويبضة، في زمان كهذا الزمان، فما أحوجنا إلى كثير من الأشياء بها نشحن إيماننا ونقوي عزائمنا حتى نستطيع أن نعبر هذا البحر المتلاطم والليل المظلم. وإن مما نحتاج إليه:
– الطمأنينة القلبية، وإننا سنجدها تنبعث إلينا من قول الله تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} آية 137 سورة البقرة.
– التسليم لله، حتى تسكن قلوبنا وإننا سنجد ذلك في قول الله تعالى: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ} آية 44 سورة غافر.
– اليقين بالنصر حتى يشتد بذلك أزرنا وتبقى معنوياتنا عالية، وسنجد ذلك في قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} آية 188 سورة الحج.
– الرجاء بالله وحسن ظننا به أن يغفر ذنوبنا ويتجاوز عن سيئاتنا، وسنجد ذلك في قول الله تعالى :{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} آية 114 سورة هود.
– الثقة بوعد الله وأن ما وعد سبحانه به عباده حتمًا ويقينًا سيتحقق وسنجد ذلك في قول الله تعالى: {وَعْدَ اللَّهِ ۖ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} آية 6 سورة الروم.
– تعلق القلب بالله وانقطاعه عن كل ما سواه لأنه وحده القادر على كل شيء، ولأن الأسباب كلها بين يديه سبحانه، وسنجد ذلك في قول الله تعالى على لسان يعقوب عليه السلام :{عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} آية 83 سورة يوسف. وقال في ذلك الشاعر:
لو كان قلبك عامرًا إيمانًا ما كنت تخشى في الدنا إنسانا
كل امرئ بالله علّق قلبه يحيا عزيزًا في الورى سلطانا
قال الدكتور حسان شمسي باشا: فلكل أحلامك وحاجاتك، لكل غال تنتظر، لكل جميل تترقبه، لكل ثمين فقدته قل بثقة ويقين “سيأتيني به الله”. وإن نبي الله داود صاحب التسبيح والأذكار والمزامير ،فإن الله سبحانه لمّا علق داود قلبه بالله وفوض أمره إليه، فإنه سبحانه قد ألان له الحديد {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} آية 10 سورة سبأ.
يقول المفسرون: فقد أصبح الحديد بين يديه مثل الطين المبلول ومثل الشمع ومثل العجين يفتله بيديه مثل الخيط يفعل ويصنع به ما يشاء. فالذي ألان لداود الحديد كفيل وقادر على أن يلين لك قلوب العباد، بل وأن يجعل الجماد كلّه مسخّرًا لك وبين يديك شريطة أن تخلص وتعلق قلبك به سبحانه.
فإذا كان الله سبحانه قد قال: {وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ} آية 7 سورة الإسراء، فلنكن على ثقة ويقين لا يتزعزع أننا سندخل المسجد الأقصى كما دخلناه أول مرة، وأن الاحتلال سيزول عنه كما زال أول مرة.
وإذا كان الله سبحانه قد قال: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا}آية 28 سورة الفتح، فيجب أن لا يساورك أدنى شك بأن هذا الدين سينتصر وأن المستقبل له، وكيف لا يكون ذلك وقد أخذ الله العهد على نفسه بتحقيق ذلك وأشهد ذاته الجليلة على ذلك.
فليست البطولة والرجولة في أن تمشي في طريق سهل ودرب ليس فيه عقبات ولا عثرات، ولا أن تبتسم من غير أن يكون في قلبك هموم ولا أحزان، ولا أن الثقة بالله وتعلق القلب به يعني أن تكون حياتك خالية من المنغصات والمكدرات والهموم، ولا أن تسلم من نفس بالسوء تأمرك وشيطان يضلك ومنافق يبغضك ومؤمن يحسدك، لا وألف لا فإن هذا ستظل تجده في طريقك، وإنما تعلق القلب بالله يجعلك تمضي رغم هذا كله، تمضي رغم الأشواك والعثرات، وتبتسم رغم الهموم والأحزان، وتتقدم نحو تحقيق وعد الله لأنك تعلم أن معك ولك ربًا لن يتخلى عنك {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} آية 62 سورة الشعراء.
فالبطولة والرجولة وصدق الإيمان وتعلق القلب بالله سبحانه ،تجعلك رغم كيد الأعداء وخيانة الزعماء ونفاق علماء وتطاول السفهاء، رغم هذا كله فإنها تجعلك وتظل على ثقة ويقين بقرب طلوع الفجر والفرج، وتظل تستبشر خيرًا، فلا تجزع ولا تقلق، وصدق الشاعر إذ يقول:
يا أيها الإنسان ما هذا الخلق؟ أوليس ربّك قد تكفّل ما خلق
أوليس بعد العسر يسر مثلما بعد الليالي دائمًا يأتي الفلق
والله سينفلق صبحنا، وسيطلع فجرنا، وستسطع شمسنا، وسيعود مسجدنا، وسيتحرر أقصانا وسيعز ديننا فلا تقلق.
نحن إلى الفلق وإلى الفرج أقرب فأبشروا..
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون