النفخ في قربة مثقوبة.. انتخابات الكنيست وقصة الحجل
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
توقعت مُبكرًا أن تتشتت القائمة المشتركة التي تشكّلت عام 2015 تحت ضغوطات كثيرة. كان للعديد من النخب السياسية والثقافية في الداخل الفلسطيني إسهامات في تشكيلها، سعيًا للتأثير وتحسين الظرفين السياسي والحياتي للعرب في الداخل الفلسطيني، وكما هو الحال دائمًا ما تحمل مثل هذه التكوينات المُهجنة نقيضها الداخلي، فقد كان تفككها أسرع مما توقع المحللون والمفكرون ممن يقرأون مثل هذه الحالات في سياقات الائتمانية الحضارية أو التشكل الحضاري للمنظومات والأقليات الساعية للتغيير والتأثير في الأطر “الجغرافية” التي تعيش فيها، فكيف إذا كانت هي صاحبة “الإطار الجغرافي”. ومنذ اللحظة الأولى حملت هذه القائمة تناقضات أيديولوجية عميقة سواء على مستوى التفكير الأيديولوجي أو القراءات السياسية. وعندما تجتمع المصلحة بكل تبريرات تحقيقها أيا كانت وضعية ووضيعة مع قضايا وطنية، تصبح تحت طائل السؤال والمساءلة، فإنَّ الطريق قريبة جدًا للتفككين الداخلي ومؤثراته الخارجية ودورها في عمليات التفكيك والترويض السياسي للعامة.
أن توصي المشتركة بمكوناتها الأربعة على غانتس الذي ضرب بالتوصية عرض الحائط وركض مسرعًا كأنَّ أفعى قد لدغته إلى حضن نتنياهو، ثمَّ تتنصل قائمة أو أخرى من التوصية وتفلسف قرارها بفلسفات غبية سياسيًا، ثمَّ تهاجم من بعد ذلك من ارتمى في حضن الائتلاف الصهيوني، وهي التي شرَّعت تلكم البدايات، فهذا يعتبر استغفالًا للعقل العربي في الداخل الفلسطيني ونوعًا من نفخ في قربة مثقوبة، ومن قبل قيل تبدأ الغواية من الغمزة الأولى.
لغة الأرقام تتحدث بوضوح أن الداخل الفلسطيني وبالذات المسلم منه، تتراجع مستويات ونسب تصويته للأحزاب بشكل مضطرد، فبعد أن كانت في خمسينيات القرن الماضي- مع تفهمنا لمعنى الحكم العسكري وتأثيره على التصويت- من متوسط 85% إلى ما هو دون الـ 32% اليوم وفق أفضل تقديرات استطلاعات الرأي وهو ما يهدد القوائم الانتخابية الثلاث التي ستخوض الانتخابات القريبة بالسقوط، إذ القوائم الثلاث تحوم حول نسبة الحسم، ولا يستبعد كاتب هذه السطور سقوط هذه القوائم إذا ما أصرَّ المجتمع المسلم في داخلنا الفلسطيني معاقبة هذه القوائم وأعرض عنها رافضًا الذهاب إلى صناديق الاقتراع وصامًا آذانه اتجاه “الطنيب” عبر مكبرات الصوت في مساجد داخلنا الفلسطيني.
دائما ما اُعمِلَ العقل والفكر والنظر إلى هذا اليوم، يوم تسقط كافة القوائم فتصبح خارج الكنيست، كيف ستتصرف وكيف ستتحول حيواتنا السياسية والاجتماعية، وهو موضوع يقع ضمن منطق القراءات المستقبلية ليس هذا المقال مكانه، لكنها دعوة لأولي الألباب للتفكير في اللحظة القادمة وما بعدها.
تعتبر هذه الانتخابات الأكثر أهمية في مسيرة الداخل الفلسطيني وتحديدًا منذ انطلاق هذه الألفية التي افتتحت بهبة القدس والأقصى، وخلالها جرت مياه كثيرة في نهر الداخل الفلسطيني لمَّا يقف عليها أغلب المنظرين والمفكرين السياسيين بسبب سيولة الحدث السياسي والتعاطي معه. ويكفي أن نعلم على سبيل المثال لا الحصر، أنه خلال هذه السنوات، حدثت هبتان وصدرت مجموعة من التصورات السياسية-القانونية-المدنية لحاضر ومستقبل الداخل الفلسطيني وعلاقاته مع الدولة، وحظرت حركة كانت ملء الداخل وبصره، وتحول المجتمع الإسرائيلي مسرعًا نحو الشعبوية والغوغائية والأبرتهايد، وسُنَّت عشرات القوانين التي استهدفت الإنسان الفلسطيني في كافة أماكن تواجده، منها وليس أخطرها قانون القومية الذي حسم إسرائيليًا جدل ونقاش العلاقة بين يهودية الدولة وديموقراطيتها إسرائيليًا.
تأتي أهمية هذه الانتخابات ليس بسبب الشتات الذي وقعت فيه القوائم والأحزاب المشاركة في انتخابات الكنيست وتأثيرات ذلك على حظوظ الفوز، إذ في مثل هذه الأحوال كل مجموعة تعمل على دخول “المعبد” ليكون لها حظًا شرعيًا في العمل السياسي بعدئذ اعتقدت ولا تزال أن ملعبها الحقيقي هو المعبد، الكنيست، وليس الداخل الفلسطيني أرضًا وشعبًا ووطنًا، بما في تلكم الكلمات من معان واضحة وكامنة. لذلك نشهد حرب روايات بين مجموعات القائمة المشتركة التي استحالت إلى مجموعتين، التجمع، والجبهة- العربية للتغيير، ومعلوم لكل مراقب أن لهاتين المجموعتين منظومات تفكير وعمل واستراتيجيات سقفها الدولة. وحرب الروايات موضوع قائم بذاته يبين حجم الخلل الأخلاقي ودونية منطق المصلحة والتشبث بالكرسي، وهذه المجموعات الأربع تذكرنا دائمًا بطير الحجل الذي لم يتقن الطيران ولا الجري فكان فريسة للصيادين أيا كانوا. ولطالما راودني سؤال العملية والأخلاق فيما تعلق في هذه القوائم، هل فكرت جديًا خارج السرب. ولعلي أشير هنا إلى مقالة الدكتور باسل غطاس المعنون بـ “تحويل السياق الإسرائيلي للانتخابات إلى سياق وطني” بغض النظر عن موقفي وتفكيكي لهذه المقالة، إلا أنها تحمل بعضًا من الإجابات المتأخرة حول سؤال المنفعة والجدوى والأخلاق والمعايير في انتخابات الكنيست.
لم تتقن يومًا الأحزاب والقوائم المشاركة في الكنيست عملها السياسي ولا اتقنت في الأداء البرلماني المفضي لتحقيق مصالح واضحة للداخل الفلسطيني في السياقات الجوهرية والعرضية بمعنى الوطنية والقيمية والمدنية المطلبية، متجاوزًا بعض ما أشير إليه من دعم فيما سمي مشاريع للسلطات المحلية تحت مخططات 922 وغيرها، فهي محل نقاش وتحليل ليس هذا مكانه بقدر ما أشير إلى أن إخلاصهم- بعد عدم الخوض بمداها والخوض في النوايا- في خدمة جماهيرهم لم يجد نفعًا، والفتات الذي تحصل عليه البعض، محل نقاش. وحديث ونثر الرماد بالعيون في عصر المعلوماتية وأدوات التواصل ما عاد ينفع فهل من مدكِر؟ّ!