معركة الوعي (132) لا خطأ ولا التباس ولا يحزنون… (ومَن يهُن يسهُل الهوانُ عليه)
حامد اغبارية
إذا كانت البدايات سيئة فالنهايات أسوأ:
في شهر شباط 2019، وعشيّة انتخابات الكنيست الحادية والعشرين، ألقى رئيس القائمة الموحدة، والقيادي في الإسلامية الجنوبية، عضو الكنيست الدكتور منصور عباس محاضرة في المسجد الأقصى المبارك قال فيها كلامًا خطيرًا أثار ضجة كبيرة، وغضبًا أكبر، حين قال إن الخليفة عمر بن الخطّاب رضي الله عنه سمح لليهود أن يسكنوا القدس، مخالفا بذلك الحقيقة التاريخيّة التي تقول إن العهدة العمرية حظرت على اليهود أن يقيموا في المدينة المقدس: (هذا ما أعطى عبد الله، عمر، أمير المؤمنين، أهل إيلياء من الأمان……. ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود).
ولمّا اشتد غضب النّاس على ما قاله عضو الكنيست عبّاس أصدر الرجل بيانًا قال فيه ما يلي: (بلغني أن بعض الإخوة أساء فهم كلام لي على طريقة “لا تقربوا الصلاة”، وذلك في سياق محاضرة طويلة عنوانها “الأقصى بوصلة نهضتنا”، هدفها نصرة الأقصى والقدس…… ثم عرّجتُ على مقارنة بين مَن احتلوا المسجد الأقصى المبارك، فظلموا العباد وأفسدوا في البلاد. بينما المسلمون عندما فتحوا القدس ودخلوها أقاموا العدل وسعد بفتحهم كل الناس، حتى اليهود الذين يحتلون اليوم القدس والأقصى….. وهذا الكلام مبثوث في ثنايا المحاضرة أيضا.
(وأما ما يخص أن عمر بن الخطاب سمح لهم بدخول المدينة وإقامة كنسهم فلعلَّ الأمر التبس مع عهد المدينة الذي أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهلها ومنهم اليهود، وليس فيه أي تبرير أو إشارة لشرعنة احتلالهم واعتداءاتهم التي نقاومها منذ أن نشأنا في رياض الإسلام).
يُفهم من هذا الكلام أن الأمور التبست على الدكتور منصور عباس فخلط بين عهد المدينة وبين العهدة العُمرية. وكان يمكن للمرء أن يجد بعض عُذر للرّجل في أنه فعلًا التبست عليه الأمور، ولم يقرأ التاريخ جيّدًا، لو كان كلامه حول الالتباس وسوء الفهم وإخراج الكلام من سياقه صحيحا.
حقيقة المسألة أن المقولة حول منح عمر بن الخطاب رضي الله عنه الحق لليهود في الإقامة في القدس جاءت عن قصد وعن نهج وعن ترتيبات مسبقة. وإليكم الدليل:
جاء في الصفحة (17) من الميثاق العام للحركة الإسلامية الجنوبية لسنة 2018، والذي عرضته (عشية الانتخابات) على الجمهور في مؤتمر صحافي في نتسيرت عيليت ما يلي:
“ومن شواهد إحسان العرب والمسلمين لهم (أي لليهود) في الفتح العُمري أن أذِنَ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لليهود أن يسكنوا القدس ويقيموا كُنسهم وشعائر دينهم فيها…”.
فهل التبس الأمر أيضا على الذين وضعوا هذا النص في الميثاق العام؟
هذا تلبيسٌ وليس التباسًا. هذا نهج وقناعات وليس اجتهادات شخصية ولا زلات لسان ولا خطأ في التعبير ولا إخراج الكلام عن السياق.
لذلك فإن كلّ ما فعله منصور عباس أنه عرض في تلك المحاضرة ما جاء في الميثاق العام الذي يعبّر عن نهج الحركة الإسلامية الجنوبية وسياستها ومواقفها من مختلف القضايا.
والآن من حقي أن أسأل، كما هو حق كل فلسطين ومسلم كذلك: هل رافق هذه (الطَّعوَجة) للتاريخ تنسيق مع جهات أخرى، إسرائيلية مثلا؟!
ولماذا هذا السؤال أصلا؟
تذكرون ذلك التصريح البائس الذي قال فيه عضو الكنيست الإسرائيلي منصور عباس في مقابلة تلفزيونية في شهر 12/2021 إن “إسرائيل هي دولة اليهود وستبقى كذلك”؟؟؟
هنا من حقي ومن حق كلّ واحد من أبناء مجتمع الداخل أن يقول إن هذا التصريح لم يأت عبثا بل هو نتيجة تفاهمات معيّنة مع جهات معيّنة. وإذا كان لدى الموحدة قول غير هذا فلتتفضل ولتشرح للجمهور.
يومها أيضا ثارت ضجة وغضب في الشارع الفلسطيني، واحتفى الشارع الإسرائيلي وإعلامه بذلك التصريح أيّما احتفاء، ثم حاول الدكتور عباس ومن حوله خداع الجمهور بتبرير الأمر بتخريجات ما أنزل الله بها من سلطان، ولا علاقة لها بالحقيقة.
أمّا الحقيقة فهي أن عضو الكنيست عباس كان قد التقى حاخام المستوطنات حاييم دروكمان في بيته في شهر أيار 2021 (قبل التصريح بسبعة أشهر)، وهناك طالبه دروكمان- كما ذكرت وسائل إعلام صهيونية- أن يصرح علنا بأن “أرض إسرائيل من حق اليهود، فهذا مكتوب في القرآن أيضا”!! فرد عليه عباس بأنه إذا فعل ذلك ستكون حياته في خطر. هذا بدلًا من أن “يصفعه” عباس على مخّه ويشرح له ما جاء في القرآن. عندها قال دروكمان: إذًا صرّحْ بأن إسرائيل دولة يهودية وديمقراطية”، فرد عباس: سأفعل، ولكن ليس الآن، يجب انتظار الوقت المناسب.
وقد جاء الوقت المناسب فعلًا بعد سبعة أشهر!!
معنى هذا الكلام أن كل تصريح،ـ وكل سلوك سياسي، وكل خطوة، وكل همسة تصدر عن منصور عباس تحمل تساؤلات حول وجود تفاهمات خلف الكواليس مع جهات يهودية دينية وسياسية، ليس من الآن فقط، بل من سنوات طويلة.
كان ذلك اللقاء مع الحاخام دروكمان على خلفية مفاوضات عباس والموحدة مع نتنياهو والليكود. وقد عقد اللقاء بترتيب مسبق عن طريق عضو الكنيست السابق من الليكود ورجل نتنياهو عميت هليفي. وفي اللقاء أعرب عباس في البداية عن تحفظه من الانضمام لائتلاف يميني بقيادة الليكود، ليس لأنه لا يريد- حسبما أعتقد- وإنما خوفا من ردة فعل الشارع، خاصة في صناديق الاقتراع، واكتفى بخيار الامتناع عن التصويت في الكنيست مقابل الاعتراف بثلاث قرى في النقب وميزانية متواضعة للمجتمع العربي تصل إلى نصف مليارد شيكل. فقد كان الحصول على الشرعية من اليمين الإسرائيلي أهم بكثير، بالنسبة له، من الحصول على الميزانيات التي وُعد بها (ولم يحصل عليها) في اتفاقية الائتلاف مع بينيت – لبيد.
كان موقف عباس- كما قال لدروكمان في ذلك اللقاء- أنه يفضل دعم حكومة يمينية من الخارج. وبعد اللقاء صاغ هليفي وعباس مذكرة باسم الراب دروكمان- بمعرفته طبعا- تلتزم فيها الموحدة باحترام دولة إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية، وأنها ترفض الإرهاب، وتدعم اتفاقيات التطبيع مع الدول العربية (اتفاقيات إبراهام)، كما تلتزم بالامتناع عن التصويت في الكنيست بخصوص القضايا المتعلقة بالخارجية والأمن!!
ثم صاغ هليفي رسالة باسم عباس موجهة إلى دروكمان يقول فيها إنه يشكره على حسن الضيافة والحوار المحترم!! وأن القائمة الموحدة مستعدة للدخول في مفاوضات ائتلافية لتحقيق مصالح المجتمع العربي، وأنه مع أعضاء الموحدة كمواطنين في دولة إسرائيل يحترمون الدولة وطابعها (اليهودي طبعا!!) وقوانينها ويرفضون الإرهاب والعنف والمس بدولة إسرائيل بأي طريقة كانت رفضا باتا. وبناء على هذه التفاهمات يمكننا البدء في مفاوضات ائتلافية من أجل دعم حكومة جدية لدولة إسرائيل عامة وللمجتمع العربي خاصة.
وكان عباس يتوقع أن يُصدر دروكمان في اليوم التالي بيانا يؤكد فيه هذه التفاهمات. ولكن سموطرتش وجماعته من حاخامات المستوطنين نسفوا كل شيء. فجأة “مرض” دروكمان واضطر للدخول إلى المستشفى الأمر الذي “حال” دون إصدار البيان. وطبعا دروكمان لم يمرض ولم يدخل المستشفى، بل عقد اجتماعا في بيته مع مجموعة من حاخامات المستوطنين بحضور سموطرتش، صدر بعده بيان عن دروكمان وجّه صفعة صاعقة لعباس ومشروعه ونهجه. فقد كال دروكمان المديح الشخصي لمنصور عباس ووصفه بأنه شخص إيجابي، ولكنه (أي دروكمان) حسب رأيه يجب تشكيل الحكومة من قِبل شعب إسرائيل فقط. وتساءل: كيف يمكن تشكيل حكومة إسرائيل بدعم من مؤيدي الإرهاب؟
وهكذا لم ينفع منصور عباس والموحدة “نبذ الإرهاب” ولا “احترام دولة إسرائيل يهودية وديمقراطية” ولا “كوننا كمواطنين في إسرائيل” بشيء!! بالضبط كما لم تنفع هذه المواقف ياسر عرفات وجماعة أوسلو بشيء.. بل دمرت مستقبل القضية الفلسطينية وحولتها إلى حطام.
وتبقى الأسئلة المطروحة الآن، والموجهة إلى منصور عباس شخصيا (والذي لم ينفِ هذه التفاصيل) وإلى قيادة الحركة الإسلامية الجنوبية، وإلى مؤيديها وأنصارها: ماذا بعد؟ إلى أين تريدون الوصول؟ وماذا في جعبتهم من المُدهشات الصادمات في قادم الأيام؟ ومن المسؤول عن هذا التوجه وهذا النّهج؟ وهل يمكن أن يصل جمهور الموحدة إلى قناعة ذات يوم أن قيادته تقوده إلى أماكن ومواقف هو غير راض عنها في قرارة نفسه، وإنْ أظهر عكس ذلك في سلوكه الانتخابي؟ وهل يمكن أن يفيق هذا الجمهور من غفلته، ويدرك أن هذه القيادة لم تقل له الحقيقة كما يجب أن تقال؟
ثمَّ متى سيكشف الدكتور منصور عباس عن تفاصيل مفاوضاته مع نتنياهو والليكود، كما وعد وأوعد وهدّد وأرعد وأزبد؟ أم أنه يفضّل الانتظار إلى ما بعد الانتخابات، لعلّ وعسى؟؟؟
أم أنّه ينتظرنا، عشيّة الانتخابات، خطابٌ آخرُ متلفزٌ يُبثّ عند الساعة الثامنة مساءً على القنوات الإسرائيلية، وقد اختيرت كلماته بعناية فائقة؛ كلمة كلمة وحرفًا حرفًا وحركة حركة، تحت مجهر “أطراف التفاهمات”، كما في المرة السابقة؟
أم أنه (هو وقيادة الحزب والتنظيم الحاضن) سيمتلكون الجرأة والشفافية ويخرجون على الناس بتوضيحات يقولون فيها الحقيقة؛ كل الحقيقة، ويعترفون بأن الطريق من بداياته خطأ… وأن النهج ثبت فشله، وأنه قد حان وقت الخروج من هذه الورطة وهذا المستنقع قبل أن تكون النّهاية كارثيّة؟