اللهم إنّا وكلنا الأمر إليك
ليلى غليون
(إنما أشكو بثي وحزني إلى الله).. هذه العبارة الدامعة تجسد فيها عظم المصاب وانساب من حروفها الحزن الذي لا يتعارض مع الفطرة الانسانية وما جبلت عليه من مشاعر، هذه العبارة التي تبعث على السكينة والاطمئنان النفسي والتي ظللها حسن التوكل على الله وسلامة التوجه إليه سبحانه وحده وليس إلى أحد سواه، منها انبثقت إشراقات روحية ونسائم إيمانية ندية تدل على أن قائلها قد وكل الأمر كله لصاحب الأمر الذي بيده ملكوت كل شيء وهو الملاذ عند الشدة والكرب.
نعم بهذه العبارة كان ذاك الرد الحاسم والقاطع من نبي الله يعقوب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لما ألقوا عليه بالملامة على حزنه المتواصل على ابنه يوسف عليه السلام، والذي لم يجد اليأس طريقًا إلى قلبه، بل ظل إيمانه بالله وحسن ظنه به هو الجسر الذي سيوصله إلى تحقيق أمله بالالتقاء بابنه الذي فقده منذ سنين عديدة، ذاك الأمل الذي استنفر مشاعره الأبوية وسني عمره الطويلة وصحته التي تآكلت وضعفت من شدة الحزن والألم، إلا أن الأمل ما برح قلبه وما برح روحه، لأنه ما يئس من روح الله بأن يأتي ذاك اليوم الذي يراه ويلتقي فيه مع حبيبه ومهجة روحه، حتى لو كان بينه وبين ذاك اليوم مسافات وحواجز مادية تشير خلاف ذلك. فما أكثر المتذمرين من سوء الحال والباكين الشاكين أحوالهم ولكن لغير الله سبحانه صاحب الشكوى ومفرّج الكرب، فما أن تصيبهم شدة، وما أن يضيق عليهم الحال حتى تراهم يبثون الشكوى للغادي والرائح ولمن هب ودب، ولا تسمع من أفواههم إلا عبارات السخط والتأفف من سوء الحظ والنصيب، فيكونون بذلك قد وقّعوا على وثيقة اعتراض وسخط على قدرهم (والعياذ بالله) بالإضافة إلى أنهم يشكون أمرهم للعباد الذين لا يملكون لهم ضرًا ولا نفعًا وقد غفلوا أن الشكوى لا ترفع إلا إلى رب العباد الله سبحانه وتعالى الذي يجيب المضــــطر إذا دعاه ويكشف عنه السوء والبــــلاء:
ولرب نازلة يضيق بها الفتى ذرعًا وعند الله منها المخــرج
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظـــنها لا تفرج
وقد سمع القاضي شريح بن الحارث الكندي (وكان في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه) أحدهم يشتكي من غمّ لصديق له، فأخذه شريح من يده وقال له: يا ابن أخي إياك والشكوى لغير الله عز وجل فإن من تشكو إليه لا يخلو أن يكون صديقًا أو عدوًا، فأما الصديق فتحزنه وأما العدو فيشمت بك ثم قال: انظر إلى عيني هذه- وأشار إلى إحدى عينيه- فوالله ما أبصرت بها شخصًا ولا طريقًا منذ خمس عشرة سنة ولكني ما أخبرت أحدًا بذلك إلا أنت في هذه الساعة، أما سمعت قول العبد الصالح: (إنما أشكو بثي وحزني إلى الله) فاجعل الله عز وجل مشكاك ومحزنك عند كل نائبة تنوبك فإنه أكرم مسؤول وأقرب مدعو.
وقد رأى ذات يوم رجلًا يسأل آخر شيئًا فقال له: يا ابن اخي من سأل إنسانًا حاجة فقد عرض نفسه على الرق، فإن قضاها له المسؤول استعبده بها، وإن رده عنها رجع كلاهما ذليلًا، هذا بذل البخل وذاك بذل الرد، فإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أنه لا حول ولا قوة ولا عون إلا بالله.
قالوا أتشـــكو إليه ما ليس يخفى عليه
فقلت ربي يرضــى ذل العبيــــد لديه
إنها الشكوى منك ترفعها إلى الله عز وجل بذل وخشوع ترجو رحمته وتدعوه ليكشف عنك البلوى، إنه التذلل لرب العباد بدموع ساخنة سخية في جوف الليل لا يراك فيها أحد سوى من لا تأخذه سنة ولا نوم، تجأر إليه بالدعاء وتلح عليه بالطلب والفرج القريب… إنه الحبل الموصل، بل لا سلكي القلوب بينك وبين من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، تبث إليه ما يضيق به صدرك وما يعتمل في قلبك عسى أن يجعل لك من أمرك مخرجًا ويسهل عليك ما عسر في حياتك.
وما نراه في هذه الأيام بالذات، وفي ظل هذه الأوضاع المتأزمة والأحداث التي يشهدها مجتمعنا في الداخل الفلسطيني بخاصة، والابتلاءات المتلاحقة على أمتنا الاسلامية من محيطها إلى خليجها وعلى كافة الأصعدة بعامة، فإننا نجد الكثير ممن ضعفت نفوسهم أمام توالي الأحداث الموجعة التي ألمت بنا ساخطين من هذه الأوضاع، بل إن منهم من استولى على قلبه اليأس والخور ليتفوه بعبارات تعكس ضعف نفسه وإيمانه وسوء ظنه بالخالق عز وجل كقوله مثلًا: لماذا يصبنا ما أصابنا؟ ولماذا نحن بالذات؟ أو كما يقول الكثير في هذه الأيام: لماذا أهل الضلال والباطل هم الأعلون وهم المنتصرون ونحن أهل الايمان والاسلام مستضعفون لا نملك حتى أن نرفع أصواتنا أمامهم وغيرها من العبارات السقيمة؟
فلا تيأسن فإن اليأس كفر وإن الله مولانا جمــــيل
ولا تظنن بربك ظن سـوء فإن الله أولى بالجميــل
فهذا رسولنا صلى الله عليه وسلم عندما اشتدت عليه الخطوب لم يبث شكواه سوى للخالق عز وجل حين قال: (اللهم اليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس…)، وهذا أخوه أيوب عليه السلام الذي زلزلته الابتلاءات إلا أنها لم تستطع قطع حبل الوصال بينه وبين ربه حيث قال: (رب إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين)، وزكريا عليه السلام والذي بلغ من العمر عتيًا إلا أنه ما سئم من أن يرزقه الله بنعمة الولد لينفثها زفرات تطرق باب رحمة الله قائلًا: (رب لا تذرني فردًا وأنت خير الوارثين) وتلك آسيا ابنة مزاحم زوجة الطاغية فرعون والتي لاقت من الابتلاء وتحملت ما لا يستطيع تحمله صناديد الرجال رفضت أن تبث شكواها إلا لله دون خلقه وذلك بالدعاء والرجاء حيث قالت: (رب ابن لي عندك بيتًا في الجنة ونجني من فرعون وعمله) وغيرهم الكثير ممن أحسنوا الظن بالله وحسن التوكل عليه وقد رزقوا بنعمة الصبر الجميل، والصبر الجميل هو الذي لا شكوى فيه.
اللهم ربنا أمنن علينا من فضلك وجودك بالصبر الجميل، ونعوذ بك من الشكوى إلا إليك.
ادعوك رب كما أمرت تضرعا فلئن رددت يدي فمن ذا يرحم
ما لي إليك وسيلة إلا الرجـــــا وجميل عفوك ثم إني مــسلم