نضــــال الإنســــان.. وداعــــًا
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
استشهد برصاص الغدر والخيانة والفجور بعد صلاة العشاء من ليلة الاثنين الفائت، الأخ الحبيب الأريب الإنسان والإعلامي المعروف نضال اغبارية، أحدُ الإعلاميين المميزين في الداخل الفلسطيني ومدينة أم الفحم. وقد كان مقتله صدمة لكل من عرفه أو له علاقة به، فهو من الناس الذين لا يخاتلون ولا يتلونون ولا ينافقون ولا يترددون في قول الحق مهما كان مرًا، خاصة وهو من عائلة مسالمة يعرفها كل من عاش معها أو إلى جوارها. وعاش حياته كلها في كنف المسجد والدعوة والكلمة الطيبة.
بدأ طريقه منذ نعومة أظفاره في المساجد وحِلَقِ الذكر ،وقد أكرمني الله أن صحبته في مسيرة تربوية ودعوية في محاضن التربية الإخوانية عدد سنين في المرحلة الثانوية والجامعية وأثناء عمله في مؤسسات إعلامية للحركة وبعد أن عمل كمستقل.
عمل نضال محمد حسين أبو العيلة “أبو ميمنة” في المجال الإعلامي في الحركة الإسلامية عدد سنين، وكان من المؤسسين إلى جانب ثلة من إخوانه للإعلام الإلكتروني والرقمي في الحركة الإسلامية المحظورة إسرائيليًا، بحكم تخصصه في علم الحاسوب وشغفه في الإعلام، منهم الفقيد الغالي الأخ عبد الحكيم مفيد- رحمه الله تعالى. ثمّ رأى أن يستقيل من عمله بعد سنوات من العطاء وأنشأ (موقع بلدتنا) أحد أهم المواقع في مدينة أم الفحم ومنطقة المثلث.
كانت ثمة حوارات ونقاشات معه في مسيرة الحركة الإسلامية وموقفها من عديد القضايا ذات الصلة بعموم العمل الإسلامي والاجتهادات المُختلفة، لكن الرجل حافظ على سمته المعهود وخلقه الرفيع وابتسامته التي ما كانت تفارقه قط، وبقي نضال الإنسان الذي من عرفه أحبه. فعليه من الله سحائب الرضوان والرحمات.
لم يخاصم أبدًا وكان صريحًا في إبداء رأيه في كثير من قضايا الأمة التي شهدتها في العشرية الأخيرة، ولم يتردد قط في إعلان موقفه من عديد القضايا ذات الصلة بالعمل الإسلامي في وطننا الواسع، وتقبل النقد تمامًا كما انتقد الآخرين، لكنه لم يتخلف لحظة عن قضايا شعبه ووطنه وبلدته وحافظ على سمت راق من الأداء.
نضال اغبارية، إعلامي لا يشق له غبار وصاحب أحاسيس عالية ومرهفة وذوق رفيع، وملكَ حاسة الإعلامي الذي يتحسس الأخبار والأنباء والمعلومات، ويعلم يقينًا كيف يصل إليها ويستثمرها جيدًا ويضعها في مكانها الصحيح. وكثيرًا ما آثر السلم المجتمعي والأهلي على عديد المعلومات التي وصلته برسم تخصصه وشبكة علاقاته.
وقف نضال أمام تغول المافيا والسوق السوداء وتعامل إعلاميا بيد من حرير وبحذر شديد مع هذا الملف الشائك والصعب الذي ابتليت به مجتمعاتنا المحلية، وقد ابتلي وأفراد عائلته بهؤلاء لأسباب ليس له بها ناقة ولا بعير، ولكنه دفع ثمنًا في إطلاق عشرات الرصاصات على بيته. وأخيرًا، ها هو يدفع ثمنًا باهظًا، حياته كلها.
مع نضال لا ييأس الشريك ولا الإنسان، فإنسانيته وخلقه الرفيع ومليح نكته وابتسامته التي لا تفارقه في أشد اللحظات حلكة، تجعل منه إنسانًا آخر في زمن كثرت فيه الشرور وأنواع النفاق وألوانها وتنبهك إلى أنّ الخير مكنوز فيه، وهو الذي يضفي لمسات من الخيرية والمرح في كل جلسة يحضرها مهما كانت شدتها، وأنت تدرك مباشرة أنه بأمثال هذا النضال، يتبين لك أنّ هذه الأمة على موعد صدقٍ قادم.
جريمة لا تغتفر..
مقتل الإعلامي اغبارية بهذه الصلافة والزندقة والعربدة والفجور والغي والتسلط، ليست عملية عشوائية راكمت وضعًا معينًا، بل عملٌ متعمدٌ استهدف الإنسان نضال بإيصال رسالة إلى آخرين. فإن كان المجرم ومن معه يبعثون برسالة إلى الإعلاميين أن لا يتعاطوا مع ملفات العنف والخاوة والسوق السوداء والجريمة المنظمة، فقد أخطأوا النجعة وفاتهم وعي المرحلة وسؤال الواقع. وإن كان مرتكب الجريمة من أرباب السوق السوداء وأراد إيصال رسالة فقد ارتكب جريمتين، أن قتل نفسًا بريئة ليس لها بهذه العوالم ناقة ولا بعير ولا يتحمل هو ولا أحد من أفراد أسرته مسؤولية ما وقع من مديونيات على أحد إخوانه، وهو أو هؤلاء يستحق/ يستحقون الملاحقة واللعنات، ومن خرج من رحمة الله حريُّ أن يخرج من رحمات الناس، وإن كان/كانوا يودون إرسال رسالة إلى أهله أنهم سيدفعون ثمن الأموال السوداء، فقد خرموا عادات ومنظومات تعمل وفقها السوق السوداء، وإن كان قتله خطأ فإن مجرد إطلاق النار على مسلم هو كبيرة ومحرم شرعًا، فضلًا عن أن هذا العمل خيانة أخلاقية ووطنية وانحراف عن الجادة وعن البوصلة الحقيقية وصب النار على حطب مجتمع يتلظى من الشرور السائلة في حيواته اليومية. وإن كان مطلق النار تعمّد خلق فتنة في مدينة شهدت منذ مطلع العام الجاري هدوءًا نسبيًا وتراجعًا في معدلات أعمال العنف بفضل عمل العديد من أهالي الخير في تحقيق سلم اهلي واجتماعي، ومن فعل ذلك جاء لزرع الفتنة وتمزيق أغشية راكم أهل الخير العمل على نسجها لتحقيق ما ذكر آنفًا. فمن فعل ذلك فقد ضلّ الصواب وأخطأ النجعة، ذلكم أن أهالي مدينة أم الفحم بشيبها وشبانها ورجالها ونسائها ماضون على تحقيق سلم مجتمعي ومجتمع خالٍ من العنف، ومن له حق فهناك عشرات العناوين في المدينة ممن يمكن الالتقاء بهم وطرح مظلمته وإعادة الحقوق إلى أهلها.
يكفي الأستاذ نضال أنّ الله اجتباه إليه شهيدًا بعد أن أدّى صلاة العشاء جماعة في مسجد حيه، مسجد البير، مسجد الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقد التقى بإخوانه في المسجد الذي يبعد عن بيته عشرات الأمتار، حيث عاد من حفل في ضاحية عين إبراهيم وقد صلى المغرب هناك، فكان تمام ليلته أن صلى المغرب والعشاء في جماعة في مسجدين من مساجد مدينة أم الفحم، لتكون له شاهدة يوم القيامة ذابَّة عنه وأنه كان من المصلين. ونضال رحمه الله مات مقتولًا مغدورًا مظلومًا، ومن مات مظلومًا كان الله ناصرًا له. فما أغبى هؤلاء القتلة وما أشدّ غرورهم، والله لهم بالمرصاد، فالحسرات على من شاقق الله وكان الله له ندًا.
لعل استشهاده يسلي بعضًا من آلامنا ويسري عليها فنحن العاملين في الحقل الإسلامي والإصلاحي في خوف ووجل شديدين من اليوم التالي، ذلكم انّ القلوب بين يدي الله يقلبها كيف يشاء. والله دائمًا نسأل السلامة في القول والعمل والإخلاص فيهما، فنحن أمام أخ حبيب غادرنا مُبكرًا حاملًا لهموم وآهات وآلام، وقد اجتباه الله مكانًا عليًا بعدئذ انتقل إليه طاهرًا مصليًا.