صناعة القدوة
أميّة سليمان جبارين (أم البراء)
عندما تختل البوصلة، وتتعدد الطرقات، وحين نقع في مطبّات الحياة، وندخل في معمعان المواجهة بين الحق والباطل، وحين نقع أسرى لأنفسنا الأمارة بالسوء، علينا أن نبحث وبجد وسط هذا التخبط والضياع، عن قبس من نور ينير لنا طريق الهداية، يدخل الدفء إلى حجرات القلب الباردة ليشعل فيها حرارة الإيمان ويدخل النور إلى غرف العقل المظلمة ليضيء لنا معالم الطريق، لا سيّما وسط هذا التيه الذي نعيشه على جميع الأصعدة.
إننا في أمس الحاجة إلى قبس من نور يتجسد في القدوة الصالحة، التي نقتدي بها ونتأسى بأفعالها، نظرًا لأهمية القدوة في التربية على المستوى الشخصي وعلى المستوى المجتمعي، خاصة إذا تطابق القول مع الفعل. فلا يعقل أن يأتي شخص مدخن على سبيل المثال، ويطلب من أولاده أن يتركوا الدخان ويشرح لهم عن أضرار الدخان الصحية والاقتصادية ويريد منهم أن يطيعوه! أو أن يكون إنسانًا معروفًا أنه يتعامل بالربا ومن أصحاب السوابق الإجرامية والجنائية ونراه يتنطح ويتصدر لجان الإصلاح المجتمعي وكأنه من أهل الصلاح والتقوى المشهود لهم! كما لا يصح أن يكون الرجل داعيًا أو المرأة داعية وأهل بيته بينهم وبين طاعة الله مئات الأميال، فتجد الأبناء لا يصلون، والبنات لا يلتزمن باللباس الشرعي، بل هم بعيدون كل البعد الفعلي عن الأخلاق الإسلامية!
ومن الجدير ذكره في هذا السياق، أنّ القدوة تندرج تحت بندين، فقد تكون قدوة إلى الخير فتنشر الفضيلة وتقوي العزيمة وتذكي الحس الوطني، وقد تكون كذلك قدوة إلى الشر وإشاعة الرذائل والفواحش. وهنا لا بد أن نتذكر حديث رسولنا القدوة محمد صلى الله عليه وسلم حين أخبرنا في الحديث الشريف: (من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها دون أن ينقص من أجره شيء، ومن سنّ سنة سيئة فله وزرها ووزر من عمل بها دون أن ينقص من وزره شيء). فالحذر الحذر لكل من يشك بأنه يُقتدى به ولو قيد أُنملة في أي تصرف أو خطوة أن يُراعي حدود الله في هذا التصرف حتى لا يكون من النادمين حين يجد نفسه يحمل جبالًا من الأوزار بسبب عمل قام به واقتدى به الناس!
أيها الإخوة والأخوات، علينا جميعًا أن نتحرى الحلال والحرام في كل ما نقوم به، وإذا أردنا أن نكون قدوة صالحة لغيرنا فعلينا أن نهتم بثلاثة أسس من غيرها لا تتبلور القدوة الحسنة وهي:
1- الصلاح في الباطن: ويتحقق بالإيمان بالله عز وجل وحق عبوديته المطلقة.
2- حُسن الخلق: (البِر حسن الخلق) ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثلًا وأسوة في كيفية تأثيره بمن حوله بحسن الخلق، ولنا كذلك بصحابته الكرام رضوان الله عليهم أمثلة كثيرة في كيفية فتحهم لبلاد كثيرة فتحًا سلميًا بسبب أخلاقهم الحسنة ومناقبهم الجميلة.
3- موافقة القول العمل: فإن التربية بالقدوة الفعلية من أنجع وأفضل الوسائل التربوية، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة يوم أن طلب من صحابته يوم صلح الحديبية، أن يحلقوا رؤوسهم ثلاث مرات ولم يأتمر أحد من الصحابة بهذا الأمر، فدخل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أم سلمة فأشارت عليه أن يبدأ هو أولًا بالحلاقة، وفعلًا ما أن رأى الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يحلق حتى قاموا جميعًا وحلقوا رؤوسهم. مما يتضح لنا في هذا الموقف أن القدوة بالفعل تؤثر أضعافًا مضاعفة في المقتدي من القدوة في القول، وهي أساس القبول عند الناس.
ولا يخفى على عاقل أن رأس الهرم في هذا المجال، كان رسولنا الهادي قدوتنا وأسوتنا ومن بعده صحابته الكرام والتابعون الذين كان لهم بصمة واضحة في صناعة تاريخنا ورقي حضارتنا الإسلامية، فكانوا منارات فخر وعز لنا بتنا نفتقدها كثيرًا في هذه الأيام، لا سيّما مع الضخ الهائل وتسويق قدوات من الممثلين والمغنين والرياضيين من خلال السوشيال ميديا وتصويرهم لجيل الشباب أنهم خير من يُقتدى بهم، فنجد الشاب يقلدهم في طريقة اللباس وحلق الشعر، والتأسي بهم في كل ما يسوقون له، وبما أن المُقتَدي يتعلق قلبه شعوريًا وفعليًا بالمُقتَدى، فقد عمل أعداء الإسلام على تسويق وتنفيذ خططهم الجهنمية لسلخ شباب الإسلام عن دينهم واعتزازهم بإسلاميتهم وحضارتهم العريقة، من خلال هذه القدوات الممسوخة الفارغة، وقد لاحظ الجميع منّا كيفية تسويق فكرة المثلية والشذوذ وجعلها أمرًا واقعًا من خلال هؤلاء القدوات المشَوَّهةِ والمُشَوهِة!!
بناءً عليه، فإنه لزامًا علينا كأهل ودعاة ومعلمين وكل من يستطيع من خلال موقعه، أن نعمل على خلق جيل يعتز بقدواته الإسلامية ابتداءً من رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوتنا وأسوتنا الأولى، وتعريف أبنائنا ومنذ الصغر، بشخصه الكريم ومواقفه الجليلة وأخلاقه الحميدة، وتعليمهم سيرة عظماء أمتنا الإسلامية من قادة وفاتحين وعلماء.
وبموازاة ذلك، علينا تشجيع من نرى أنه بإمكانهم أن يكونوا قدوات لشبابنا في وقتنا المعاصر، من خلال إبراز قدراتهم وتميزهم، كما كان يفعل الرسول مع الصحابة حيث كان يعرف كل واحد بأي مجال يتميز فيشجعه ويعطيه المهام المناسبة لقدراته والاهتمام بتنمية هذه القدرات. وبذلك تتم صناعة القدوات كل في مجاله، ولكن ما يحز في النفس في هذه الأيام، أنّ هنالك عملية وأد للقدوات الحسنة في مجالاتها المختلفة، لما لهذه القدوات من تأثير على جيل الشباب. لذلك نجد أنّ أغلب هذه القدوات قد زُجّت في السجون أو تم قتلها بطرق خفية أو تهميشها! حتى لا يكون لها أي أثر في إحداث أي تغيير على الواقع الأليم الذي نعيشه، لأن ولاة الأمر يريدون وبشدة ويعملون على إبقاء دولة الرجل الواحد.
وهذا ما نجده في أغلب دولنا العربية وللأسف الشديد. لذلك يفسحون المجال لاستيراد أو تصنيع قدوات سيئة مهزومة دينيًا وفكريًا، لتسويقها في مجتمعات الشباب- وقد تحولوا إلى أدوات لتنفيذ مخططات أعداء الإسلام كما ذكرت آنفا بتجريد الشباب من هويتهم الإسلامية والاعتزاز بها- والسؤال الذي يطرح نفسه، إلى متى ستبقى النماذج الهشة من القدوات والتي هي أساسًا من أسباب تخلفنا، وسببًا في معاناتنا تتصدر الشاشات والمواقع؟! ولماذا لا تظهر مكانها نماذج الطبيب والمهندس والداعية وغيرهم ؟!!
وأخيرًا وليس آخرًا، فإنني أتوجه إلى صناع القرار في مجتمعنا، أن يضعوا موضوع القدوة في سلم أولوياتهم، لأن القدوات الصالحة الحقيقية، تساهم في إحداث التغيير المرغوب فيه وتعين على بناء الأخلاق والسلوك الحسن في المجتمع، ما يرتقي به إلى مصاف المجتمعات المتحضرة.