الأيام دول والليالي حبالى
الشيخ رائد صلاح
أليس هناك رجل رشيد في المجتمع الإسرائيلي حتى يعلم أن رئيس الحكومة الإسرائيلية (لبيد) يوم أن شنّ عدوانه الأخير على غزة المستهدفة، فقد أراد من وراء ذلك رفع أسهمه الانتخابية- سلفا- في انتخابات الكنيست القريبة القادمة التي ستكون بتاريخ 1/11/2022، وأراد من وراء ذلك الحصول على أكبر عدد ممكن من المقاعد الكنيستية، والحصول على أقوى ضمان للبقاء على كرسي الحكومة الإسرائيلية، وأراد من وراء ذلك قطع الطريق على غريمه الانتخابي (نتنياهو) الذي تشير الاستطلاعات الراهنة أنه قد يكون هو الرئيس القادم في الحكومة الإسرائيلية. لكل ذلك فقد شنّ (لبيد) هذا العدوان على غزة الموجوعة ظنًّا منه أنها (ضربة معلم) في حساباته السياسية، وأنه سيصيب كل هذه الأهداف بحجر واحد، وهذا الحجر هو هذا العدوان على غزة الصابرة.
ولا شك أنّ (لبيد) كان يعلم سلفا أنه في الوقت الذي سينزل فيه ضرباته العسكرية على غزة وبيوتها وأهلها ومقدساتها فهذه الضربات العسكرية هي ضربات عمياء، وهذا يعني أنها قد تقتل أو تجرح الرجل أو المرأة، أو الشاب أو الطفل، وهذا ما حصل، فقد كان من بين هذا الرقم العالي من الشهداء والجرحى، الرجال إلى جانب النساء والأطفال.
وإلى جانب ذلك كان لبيد يعلم سلفا أن هذه الضربات العسكرية العمياء، ستهدم بيوت الأبرياء على رؤوسهم، وقد تنال من مباني المساجد والكنائس في غزة المستباحة. ومع ذلك أصرّ (لبيد) على شنّ هذا العدوان، لأنه لم يستطع أن يقاوم لعابه الذي بدأ يسيل منذ الآن على (كعكة الكنيست)!! ممنيا نفسه أنه سيحصل من وراء هذا العدوان على أكبر حصة من هذه (الكعكة)!! على صعيد المقاعد الكنيستية ومقعد رئاسة الحكومة، وإلا – وفق حساباته – فقد تضيع هذه الفرصة الثمينة منه، وقد يعود بعد انتخابات الكنيست القادمة القريبة كما كان، قد يعود مجرد عضو كنيست في معسكر المعارضة، لا يجيد إلا فنّ الصراخ في جلسات الكنيست، ولا يجيد إلا فن بهلوانيات حركات الجسد والرأس عندما يعارض أو ينتقد أو حتى عندما يتملق رئاسة الحكومة الإسرائيلية القادمة!!
وهذا يعني أن (لبيد) قد أحال غزة المحاصرة بكل أرضها وسمائها وبحرها وبيوتها وأهلها ومقدساتها إلى رهينة لأطماعه السياسية، وكأن لسان حاله يقول له: وماذا عليك يا (لبيد) لو شننت هذا العدوان على غزة المرهقة- أصلا- وقد سبقك في ذلك (شمعون بيريس) عندما شنّ عدوانا عسكريا على قانا لبنان بدافع أطماعه السياسية الكنيستية، كما وسبقك في ذلك (أريل شارون)، عندما اقتحم المسجد الأقصى قبل عقود طامعا من وراء ذلك تفكيك حكومة براك والتعجيل بموعد جديد لانتخابات كنيست جديدة!! وكأن لسان حال لبيد يقول له: إن كانوا هم السابقين، فلتكن أنت من اللاحقين!! وكأن هذا العدوان الذي يشنّه على غزة المخنوقة أشبه ما يكون بلافتات الدعاية لانتخابات الكنيست القادمة التي بدأنا نراها على شاشات لوحات الإعلانات والتي بدأت تقول: (صوتوا لمرشحكم المحبوب (س) في انتخابات الكنيست القريبة القادمة) أو (صوتوا لمرشحكم الزاهد بالزعامة (ص)..) أو (صوتوا لمرشحكم الجندي المجهول (ع) ..)… وهكذا وكأن لسان حال (لبيد) يقول له: لا عليك إذا أحيلت غزة الدامية إلى لوحة إعلانات لدعايتك الانتخابية للكنيست القريبة القادمة!! ولكن في الوقت نفسه أقول : أليس هناك رجل رشيد في المجتمع الإسرائيلي حتى يعلم أن (لبيد) لم يحل غزة المنهكة الى رهينة لأطماعه السياسية الكنيستية فقط، بل أحال المجتمع الإسرائيلي نفسه إلى رهينة لهذه الأطماع!! لأنه مما لا شك فيه أن (لبيد) كان يعلم أنّه يوم أن شنّ هذا العدوان، فإنّ من المتوقع أن يكون هناك رد فعل من غزة، وهذا يعني أنه من المتوقع أن يكون هناك هدم بيوت إسرائيلية، ووقوع إصابات في المجتمع الإسرائيلي ما بين قتيل وجريح، ومع ذلك شنّ (لبيد) هذا العدوان!!
وكأن هذا العدوان سيتخذ منه (لبيد) إنجازه البطولي الذي سيزهو به على المجتمع الإسرائيلي، وسيخرج به على أفراد هذا المجتمع وهو منتفخ الأوداج، كيما يقول لهم بنبرة فرعونية أو قيصرية أو كسروية أو نمرودية: أنا حامي حماكم ولا حامي لكم غيري، ومن الواجب عليكم أن تصوتوا لي في انتخابات الكنيست القريبة القادمة، ثمّ من الواجب عليكم أن تحملوني على أكتافكم لتعيدوني إلى كرسي رئاسة الحكومة مرة ثانية، فما لكم غيري!! وهذا يعني أن المجتمع الإسرائيلي في كافة مواقعه قد أصبح مطالبا في حسابات- لبيد- أن يدفع فاتورة وصول لبيد إلى رئاسة الحكومة!! وهذا يعني انّ أي مصاب إسرائيلي في بيته أو جسده يجب أن يقاضي- لبيد- لو كان رشيدا، لإن (لبيد) هو الذي جعل منه رهينة لأحلامه السياسية التي بات يخاف أن تضيع منه بعد انتخابات الكنيست القريبة القادمة!!
ووفق أبجديات السياسة وأعرافها فإن أية حكومة راشدة لا تسمح لرئيسها أن ينفذ قرارات مصيرية قبيل موعد أية انتخابات، لا سيّما إذا تبقى على موعد هذه الانتخابات أقل من ثلاثة أشهر، كي لا يتهور هذا الرئيس وينفذ قرارات مصيرية مغامرة!! إلا أنّ (لبيد) تجاهل كل هذه الأبجديات والأعراف وضرب بها عرض الحائط، وشنّ هذا العدوان الأهوج بالبث المباشر على غزة المرهقة، فهو البث المباشر- في حسابات (لبيد)- الذي سينقل صورة هذا العدوان منذ بدايته حتى نهايته إلى كل بيت إسرائيلي، وكأن هذا العدوان هو امتداد للوحات الدعاية الانتخابية المعلقة في تل- أبيب وغيرها التي تدعو للتصويت للبيد في انتخابات الكنيست القريبة القادمة!! ثم كأن لسان حال لبيد يقول له: لا تتردد في شن هذا العدوان، فهناك الوساطات الدولية والإقليمية التي ستتدخل مباشرة للوصول إلى وقف إطلاق النار بينك وبين غزة المستباحة بعد أن تكون قد رفعت أسهمك الانتخابية، وبعد أن تبدأ الاستطلاعات بالتأكيد أن رئيس الحكومة الإسرائيلية القادمة لن يكن إلا (لبيد)!! ولكن في خضم هذه الحسابات الأرضية القاصرة والسطحية والساذجة نسي (لبيد) أن الله تعالى هو مالك الملك، وهو الذي يؤتي ملكه من يشاء، وينزع ملكه ممن يشاء، وهو الخافض والرافع، وهو الذي له عاقبة الأمور، فأين كان كل من فرعون والنمرود وكسرى وقيصر وأين أصبحوا، ولن يكون (لبيد) فوق إرادة الله تعالى ولا فوق قدره ولا سننه، وستبقى العاقبة للمتقين وإن كانوا تحت وطأة احتلال وظلم وحصار طويل، مهما تباينت مظاهر القوة المادية، بين الظالم والمظلوم، وبين الباطل القوي والحق الضعيف، لا سيّما إذا عرفنا أن الأرض المباركة أرض بيت المقدس وأكناف بيت المقدس لا يعمّر فيها ظالم، والأيام دول، والليالي حبالى.