لا لن تطول الأحزان يا أقصى
الشيخ كمال خطيب
يوم حزن
يوم بعد غد الأحد 7/8/2022 ميلادي الموافق لـ 9/محرم/ 1444هجري الموافق للتاسع من آب وفق التقويم العبري. هذا اليوم وعند حلوله في كل عام، فإنه يتحول إلى يوم حزن وبكاء ودموع عند اليهود، يصاحب ذلك صيام يمتد طيلة ليل ونهار ذلك اليوم. التاسع من آب العبري هو اليوم الذي تحلّ فيه على اليهود ذكرى خراب هيكلهم الذي بناه نبي الله سليمان عليه السلام وقد هُدم مرتين، المرة الأولى هدمه نبوخذ نصّر ملك بابل لما اجتاح في العام 585 قبل الميلاد هذه البلاد، وقام ليس فقط بهدم الهيكل ،وإنما قام بسبي اليهود وإجلائهم مع جيشه إلى بابل وسمي ذلك باسم السبي البابلي. بعد انتصار الملك كورش ملك الفرس على البابليين، قام بالسماح لمن بقي من اليهود بالعودة إلى فلسطين حيث قاموا بإعادة بناء هيكلهم ثانية. هذا الهيكل الذي وخلال الاحتلال الروماني للمنطقة، فقد قام الإمبراطور والقائد الروماني “تيطس” في العام 70 للميلاد بهدمه وتخريبه، وفي العام 135 فقد جاء القائد الروماني “هدريانوس” وقام بتخريب ما بقي من آثار الهيكل الثاني وهدم أي مَعلم من معالمه، ونقل حجارته وحرث أرضيته بالمحاريث كما ذكر ذلك المؤرخون.
إذن ليس المسلمون هم من خرّبوا هيكل اليهود في المرة الأولى وإنما هم البابليون، وليس المسلمون هم من خرّبوا هيكل اليهود في المرة الثانية وإنما هم الرومان مع الإشارة والتأكيد إلى أمرين اثنين:
الأول: أن المسجد الأقصى الذي يزعم اليهود أنه بُني على أنقاض هيكلهم، فإنه كان قائمًا قبل بناء الهيكل. فالمسجد الأقصى المبارك قد بُني بأمر الله تعالى في عهد آدم عليه السلام، وقد بنته الملائكة بعد بناء المسجد الحرام بأربعين سنة كما قال النبي ﷺ وقد سأله أبو ذر الغفاري رضي الله عنه: “يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: المسجد الحرام: قلت ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى. قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة”. فكيف يكون المسجد الأقصى قد بُني على أنقاض الهيكل وهو الذي قد بُني قبله؟!
ثانيًا: إن دين الإسلام الذي بعث الله عز وجل به سيدنا محمد ﷺ فإن به قد ختم الله الرسالات السماوية بدءًا من آدم عليه السلام، ومرورًا بعيسى ابن مريم عليه السلام، وختامًا بمحمد ﷺ، حيث كان مولده ﷺ في العام 570 لميلاد سيدنا عيسى وكانت بعثته ﷺ في العام 610 لميلاد سيدنا المسيح عيسى ابن مريم عليه وعلى أمه الصلاة والسلام.
فما دام المسجد الأقصى قد بُني قبل الهيكل، وأن الهيكل قد بُني مرتين ثم هُدم وخُرّب، وواضح أنه قد بُني في مكان غير المكان الذي فيه المسجد الأقصى وفي هذا تفاصيل كثيرة. وما دام المسلمون ليسوا هم من هدموا وخربّوا الهيكل إذ لم يكن رسول الإسلام ﷺ قد بُعث، فمن أين هذا الافتراء أن المسجد الأقصى قد بُني مكان الهيكل؟ ومن أين ولماذا كل هذا الحقد والكيد والمكر والتخطيط لهدم المسجد الأقصى المبارك وإعادة بناء هيكلهم الثالث المزعوم على أنقاضه، هذا الذي تخطط وتروج له الجماعات اليهودية عبر مخططاتها السوداء وأعمال الحفر التدميرية التي تقوم بها تحت وفي محيط المسجد الأقصى المبارك، الأمر الذي جعل المسجد الأقصى وبنيته على خطر عظيم بسبب تلك المخططات التي ابتدأت منذ العام 1917، وما أن حصلت الصهيونية العالمية على وعد بلفور يوم 02/11/1917 حتى تقدّم رئيس حاخامات اليهود ومعه ممثل الحركة الصهيونية بطلب رسمي إلى حكومة الانتداب البريطاني للاستيلاء على المسجد الأقصى المبارك لهدمه وبناء معبد سليمان مكانه.
وفي العام 1929 قال الحاخام “كلونز” رئيس جمعية الدفاع عن حائط المبكى في تصريح نشرته صحيفة “بلاستاين ويك” اليهودية: “إن المسجد الأقصى القائم على قدس الأقداس في الهيكل إنما هو لليهود”. وفي 20/11/1930 بعث رئيس حاخامي رومانيا “روزنباخ” كتابًا إلى رئيس المجلس الإسلامي ومفتي فلسطين المرحوم الشيخ أمين الحسيني يطالبه فيه بتسليم المسجد الأقصى لليهود ليقيموا فيه شعائرهم الدينية. وفي العام 1948 صرّح دافيد بن غوريون بعد النكبة التي أوقعها بشعبنا واحتلال غربي القدس وإعلان إقامة الدولة العبرية قائلًا: “إنه لا معنى لإسرائيل بدون القدس، ولا معنى للقدس بدون انتزاع موقع الهيكل من العرب”.
وفي عيد الغفران من العام 1968 قال المؤرخ اليهودي يسرائيل الداد: “نحن نقف الآن حيث وقف داود حين حرر القدس، ومن ذلك الوقت مضى جيل واحد قبل أن يقوم سليمان ببناء الهيكل”، وهذا يعني أن اليهود ينوون بناء الهيكل خلال جيل واحد. ولما سُئل المؤرخ اليهودي ماذا سيكون مصير المسجد الأقصى في حالة الإقدام على بناء الهيكل أجاب قائلًا: “إن المسألة على كل حال مدار بحث”، ثم أردف قائلًا: “لعل زلزالًا يقع فيدمّر مسجد المسلمين”. ومن خلال هذه المخططات وهذه الأجواء، فلم تكن صدفة أنه وبعد سنة من هذه التصريحات فقد وقع الاعتداء الآثم بإحراق المسجد الأقصى المبارك يوم 21/8/1969 والذي ستحل ذكراه بعد أسبوعين.
إذن يوم بعد غد الأحد التاسع من آب العبري هو ليس يوم عبادة وصيام مجرد من أية أطماع دينية وسياسية، بل إن تلك الأطماع والسياسات هي في صلب ذلك اليوم، ومن هنا تأتي هذه الدعوات المجنونة والحاقدة لاقتحام واجتياح المسجد الأقصى في هذا اليوم، وكل ذلك بحماية أمنية وشرطية ومعها غطاء سياسي لحكومة لابيد بينت القائمة على أصوات أعضاء الكنيست العرب من القائمة الموحدة التي يرأسها منصور عباس.
يوم فرح
ويوم الاثنين 8/8/2022 والذي سيوافقه يوم 10/ محرم /1444. إنه اليوم الذي لمّا وصل النبي ﷺ إلى المدينة المنورة بعد رحلة الهجرة المباركة، فإنه وجد اليهود يصومون فسألهم عن سبب صيامهم وتعظيمهم لذلك اليوم، فقد روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “قدم النبي ﷺ المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجّى الله بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى شكرًا، فقال رسول الله ﷺ: فأنا أحق بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه”. وقد ورد في فضل صيامه عن أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: “صيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفّر السنة التي قبله” أخرجه الإمام مسلم، مع ضرورة الإشارة إلى أن تعظيم هذا اليوم ليس له علاقة بتعظيم الشيعة له حيث قدّر الله تعالى أن يكون مقتل الإمام الحسين بن علي رضي الله عنهما في هذا اليوم في معركة كربلاء، فهم يعظّمونه ويفعلون فيه الأفاعيل بسبب مقتل الحسين وليس بسبب تعظيم الحسين لهذا اليوم كما ورد في الحديث الشريف.
إنها عظمة الإسلام إذن في فهم العلاقة بين الأنبياء والرسل الكرام جميعًا. فإذا كان النبي ﷺ قد قال: فأنا أحق بموسى منكم”. فإنه ﷺ يوم وجد وعلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بيده صفحات من التوراة فغضب كما ورد في الحديث الشريف “إن النبي ﷺ غضب حين رأى مع عمر صحيفة فيها شيء من التوراة وقال: أفي شكّ أنت يا بن الخطاب، ألم آت بها بيضاء نقية؟ لو كان أخي موسى حيًا ما وسعه إلا اتباعي”. إنهم الأنبياء إذًا كما ورد في الحديث الآخر لرسول الله ﷺ إنهم إخوة ودينهم واحد هو الإسلام والتوحيد: “الأنبياء إخوة من علاّت وأمهاتهم شتى ودينهم واحد”.
لقد فرح النبي ﷺ لنجاة موسى وبني إسرائيل من فرعون الطاغية، فصام ذلك اليوم شكرًا لله وحبّب إلينا نحن أتباعه أن نصوم ذلك اليوم لقناعتنا أن ما كان عليه موسى عليه السلام والتوراة التي أنزلت عليه، فإنها والقرآن الذي أنزل على محمد ﷺ لتخرج من مشكاة واحدة، إنها مشكاة التوحيد قبل أن ينالها- أي التوراة- التحريف والزيغ.
ففي الوقت الذي نصوم لله شكرًا ، وسنصوم إن شاء الله يوم عاشوراء وسنسبقه بيوم تاسوعاء صيامًا كذلك مخالفة لهم شكرًا وفرحًا بنجاة موسى عليه السلام، فما بالهم وهم أتباع موسى وعلى دين موسى، ما بال هؤلاء يعدّون العدة ويخرجون الخطط من الدواليب سعيًا لهدم مسجدنا الأقصى وبناء هيكلهم الثالث المزعوم على أنقاضه؟
إنه الفارق الكبير والبون الشاسع بين ما نحن عليه وبين ما هم عليه. نحن نصوم شكرًا لله تعالى وفرحًا أن نجّى الله موسى عليه السلام وبني إسرائيل من ظلم فرعون، بينما من يزعمون أنهم من سلالة بني إسرائيل ،أولئك يصومون حزنًا على خراب هيكل لسنا نحن المسلمون من خرّبه، ويعقدون عزمهم على إعادة بنائه على أنقاض أقصانا، لا بل إنهم يوقعون بنا ظلمًا لا يقلّ عن الظلم الذي أوقعه فرعون بهم.
لا لن تطول الأحزان
بيت المقدس ومسجدها الأقصى في القلب منها، هي أرض المحشر والمنشر كما قال النبي ﷺ وقد قالت له ميمونة بنت سعد: “يا نبي الله أفتنا في بيت المقدس. قال: أرض المحشر والمنشر”. وبعد العرض على الموازين والحساب يتفرق الناس من بيت المقدس إما إلى الجنة وإما إلى النار كما جاء في قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} آية 14 سورة الروم. قال أبو عبد الله المنهاجي: “وتوضع الموازين يوم القيامة بالبيت المقدس وينفخ إسرافيل في الصور ببيت المقدس ويتفرق الناس من بيت المقدس إلى الجنة والنار”. وقال ابن الجوزي: قال كعب: “العرض والحساب ببيت المقدس”.
وفي بيت المقدس الطائفة المنصورة كما قال النبي ﷺ: “لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لعدوهم قاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك. قيل: يا رسول الله أين هم؟ قال ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس”.
إنها فضائل بيت المقدس وفي لبّها مسجدها الأقصى وغير هذه الفضائل كثير، لكن يكفي المسجد الأقصى أنه سيكون المحطة الفارقة بين ما تكون عليه الأمة من أحزان وآلام وذل وهوان، ليتحول ذلك إلى أفراح وآمال وعزّ وفخار، حيث بداية ذلك مما سيحدث في بيت المقدس عامة وفي المسجد الأقصى خاصة. قال في هذا ربنا سبحانه في مقدمة آيات سورة الإسراء التي استهلها ربنا سبحانه بالحديث عن المسجد الأقصى المبارك: {سُبْحانَ الَّذِي أسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ المَسْجِدِ الحَرامِ إلى المَسْجِدِ الأقْصى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِن آياتِنا إنَّه هو السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ثم أتبع ذلك سبحانه بعد بيان مظاهر الإفساد والظلم الذي يمارسه بنو إسرائيل والذي سببه كثرة الأموال والبنين والنفير والعلوّ الكبير.
ولعلّ من أهم مظاهر العلوّ الكبير ليس فقط بالدعم الأمريكي والأوروبي للمشروع الصهيوني، وإنما هو الدعم العربي والإسلامي وحتى الفلسطيني الرسمي للمشروع الصهيوني عبر اتفاقيات التطبيع وحيث بنودها الواضحة في حق مزعوم لليهود بالصلاة في المسجد الأقصى باعتباره وفق منطقهم الذليل أنه جبل الهيكل!!! {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا}.
نعم إنه بإذن الله يوم يزول هذا الزيف عن المسجد الأقصى المبارك، ويوم يطهّر من ذلك الدنس الذي اسمه الاحتلال، فعند ذلك سنطوي صفحة الأحزان ونفتح صفحة الأفراح والليالي الملاح {…وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ*بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ*وَعۡدَ ٱللَّهِۖ لَا یُخۡلِفُ ٱللَّهُ وَعۡدَهُۥ وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا یَعۡلَمُونَ} يسألونك متى هو قل عسى أن يكون قريبًا.
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.