اللبنانيون في إسرائيل.. محاولات الاندماج والوصم بالعمالة تلاحق أجيالهم المتعاقبة
بين محاولات الاندماج في المجتمع الإسرائيلي والاكتواء بـ”وصم العمالة”، تعيش عوائل من بقايا عناصر جيش لبنان الجنوبي في قرية كريات شمونة شمالي إسرائيل، يرقبون بنظرات الشوق مراتع الصبا ومرابع الأجداد على الجانب الآخر من الحدود اللبنانية الإسرائيلية، بعد أن فروا مع أهاليهم غداة إعلان جيش الاحتلال الإسرائيلي الانسحاب المفاجئ في عام 2000.
عوائل ما تزال تصطلي بـ”نيران العمالة” التي وسم بها آباؤهم بعد أن كانوا جزءا مما يسمى “جيش أنطوان لحد” الذي قاتل مدعوما من الجيش الإسرائيلي منظمةَ التحرير الفلسطينية وفصائل لبنانية، إبان الحرب الأهلية بين عامي 1975 و1990.
وبينما بقي أفراد من تلك العوائل شاهدين على أهوال تلك الفترة من الحرب الأهلية اللبنانية، نشأ جيل تفتحت عيناه في أحضان المجتمع الإسرائيلي واندمج كليا في مؤسساته الرسمية والاجتماعية بل والعسكرية.
يعيش نحو 3600 لبناني في معظم البلدات الإسرائيلية الواقعة شمالا والأقرب إلى الحدود اللبنانية مثل كريات شمونة ونهاريا والمطلة وصفد وطبرية وغيرها.
وفي حين لا يزال بعضهم يعاني أوضاعا اقتصادية واجتماعية صعبة، اندمج آخرون كليا في إسرائيل، ولا سيما الشباب الذين ولدوا فيها أو فروا إليها وهم أطفال لكنهم شبّوا فيها ولم يعودوا يتذكرون شيئا عما قضوه في سهول جنوب لبنان.
ويعمل أولئك الشباب في مختلف المهن بما فيها الجيش والشرطة من دون تولّي مناصب عليا، ويرى كثير منهم أن إسرائيل حمته ورعته، فعليه واجب “رد الجميل” من خلال خدمتها.
ويضمن الالتحاق بالجيش الإسرائيلي لأولئك الشباب حقوقا لا يحصل عليها من هو خارج الجيش، مثل الحصول على أرض أو بيت أو منح تعليمية وغيرها من المزايا.
وبدأت محاولات اندماج لبنانيي إسرائيل في المجتمع اليهودي حين رفض فلسطينيو 48 استقبالهم في قراهم وبلداتهم للعيش بها والسكن فيها بعد فرارهم من لبنان، فلجؤوا إلى البلدات الإسرائيلية.
وينخرط الجيل الجديد من “لبنانيي إسرائيل” في المجتمع اليهودي من خلال مرحلة الحضانة المدرسية مرورا بمراحل الدراسة الأساسية وصولا إلى الجامعات ثم عالم الأعمال.
أما الجيل الأول منهم من الضباط والجنود فقد قرر بعضهم مغادرة إسرائيل بسبب الظروف الاجتماعية والمعيشية وصعوبة التأقلم في المجتمع الإسرائيلي.
آخرون بقوا في إسرائيل وتلقوا مساعدات من وزارتي الاستيعاب والدفاع، لكنها لم تكن كافية لهم لسد احتياجاتهم المعيشية، كما أنهم يعانون من قلة فرص العمل التي تلائم مؤهلاتهم المقتصرة على الخبرة العسكرية، وهو ما لا يمكن التعويل عليه للعمل في الحياة المدنية بإسرائيل.
لا يخفي أولئك خيبة أملهم من تعامل الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بسبب فشلها في تأمين عيش كريم لهم كما يرون.
وتُعتبر مشكلة السكن إحدى العقبات لدى أولئك اللبنانيين خاصة بعد أن تلقى ضباط سابقون، ذوو مناصب رفيعة ورواتب عالية، بيوتا ومساعدات لم يحصل عليها آخرون.
وفي شهر يونيو/حزيران الماضي أعلنت إسرائيل عن مساعدات بنحو 150 ألف يورو لأعضاء قدامى في جيش لحد تمهيدا لحل أزمة الإسكان التي تعانيها 400 أسرة لم تحصل على سكن مناسب بعد وصولها إلى إسرائيل، بحسب الجيش الإسرائيلي.
وقال وزير الدفاع بيني غانتس -الذي شغل منصب قائد وحدة الارتباط مع لبنان عندما سحب الجيش الإسرائيلي قواته- إن هذه المساعدة “هي مسألة عدالة تاريخية للذين قاتلوا إلى جانبنا وطُردوا (…) من بلادهم”.
جذور القضية
وتعود قصة بقايا تلك العائلات إلى عام 1976 في بدايات الحرب الأهلية حين تشكلت مليشيا عرفت باسم “جيش لبنان الجنوبي” الذي قاده الضابط في الجيش اللبناني سعد حداد ثم أنطوان لحد، ورعته إسرائيل ليكون درعا واقية لها من هجمات منظمة التحرير الفلسطينية، التي اصطفت معها جماعات يسارية وعروبية وإسلامية، ولاحقا من حزب الله اللبناني، وكان أغلب أعضاء جيش لبنان الجنوبي مسيحيين مارونيين من أبناء القرى الجنوبية الذين انشقوا عن وحدات بالجيش اللبناني.
كانت إسرائيل تقوم خلال تلك الفترة بتسليح المليشيات المسيحية ووفرت لها السلاح والدعم والتدريب، ولم يقتصر دعم إسرائيل على الجانب العسكري، بل شمل جوانب طبية واقتصادية.
وحين انسحب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان في 2000 جرّ معه آلافا من جيش لحد وعوائلهم الذين قدر عددهم بين 6500 و7 آلاف، وانخفض العدد إلى نحو النصف، بعد أن عاد بعضهم إلى لبنان في الفترة التي تلت الانسحاب الإسرائيلي، وقدموا لمحاكمات قضائية صدرت فيها إجمالا أحكام مخففة بالسجن، فيما هاجر آخرون إلى دول غربية مختلفة.
محاولات العودة
في 2011، أقر مجلس النواب اللبناني قانونا يسمح بعودة اللبنانيين الذين لجؤوا إلى إسرائيل. وقد صرح حينها النائب عن كتلة التيار الوطني الحر إبراهيم كنعان لوكالة الصحافة الفرنسية بأن “الذين سيسمح لهم بالعودة، يجب ألا يكون لهم ملف عسكري أو أمني بالتعامل مع إسرائيل”، وأن أفراد عائلات الأشخاص الذين كانوا منضوين في جيش لبنان الجنوبي يمكنهم العودة أيضا شرط أن يخضعوا لمحاكمة عادلة.
ولا تزال المراسيم التطبيقية لذلك القانون قيد الإعداد في وزارة العدل، وقد زادت أزمات لبنان المتوالية على الصعيدين السياسي والاقتصادي من تعقيد القضية.
وتثير قضيتهم حساسية بالغة في لبنان، إذ يصفهم البعض بـ”المبعدين قسرا”، فيما يعتبرهم آخرون “عملاء” لإسرائيل، ويرفضون عودتهم إلى لبنان.
وقد بذلت الرعوية المارونية جهودا لحل معضلتهم، وفتحت لهم 3 مراكز في عكا وطبرية وكريات شمونة القريبة من الحدود اللبنانية.
وقام البطريرك الماروني بشارة الراعي بزيارة إلى القدس المحتلة لملاقاة بابا الفاتيكان التي وصفها بأنها دينية وليست سياسية، بعد أن أثارت جدلا في ذلك الوقت، والتقى خلال الزيارة الجالية المارونية هناك ومنهم اللبنانيون الذين لجؤوا إلى إسرائيل.
كما أثارت قضية توقيف المطران موسى الحاج ضجة في لبنان، بعد أن أوقف في معبر الناقورة عائدا من إسرائيل وبحوزته نحو 460 ألف دولار قال إنها مساعدات إلى اللبنانيين في ظل الأزمة الاقتصادية في البلاد، في حين قال مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية بالإنابة القاضي فادي عقيقي إن الأموال “ليست ملك الكنيسة إنما مصدرها من عملاء مقيمين في إسرائيل”.
وعبر المطران موسى الحاج -في تصريحات صحفية سابقة- عن استحالة عودة اللبنانيين في إسرائيل بسبب ما قال إنه رفض الغالبية الساحقة منهم العودة بشروط أو من دونها، خاصة في ظل الأوضاع السياسية والاقتصادية التي تعيشها البلاد حاليا.
وإذا كان كبار السن تتعذر عودتهم بسبب مخاوفهم من الاعتقالات أو المحاكمات، فإن الشباب منهم “تأقلموا في المجتمع الإسرائيلي ولا يريدون مغادرة إسرائيل”، بحسب المطران الحاج المكلف بملفهم.
وعلى الرغم من اعتناق بعضهم اليهودية، واندماج آخرين في مجتمع الاحتلال الإسرائيلي فإن أزمة هوية تلاحق كثيرين منهم، ولا يزيدها الزمن إلا رسوخا خاصة في الأجيال المتعاقبة.