رحم الله الكلب الفقيد
الشيخ كمال خطيب
يومًا ما سيختلي بك ربك
لأجل ذلك اليوم لا بد أن نستعد بدءًا من اليوم {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} آية 281 سورة البقرة. قال عمر رضي الله عنه :حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا”. إنه إذن يوم الحساب، ولعل أعظم ما في ذلك اليوم من هول، أن الذي سيحاسبنا وجهًا لوجه ليس إلا الله رب العالمين فيكلمنا جلّ جلاله وليس بيننا وبينه ترجمان. قال رسول الله ﷺ: “إن الله يدني العبد فيضع عليه كنفه ويستره فيقول: أتعرف ذنبك كذا أتعرف ذنبك كذا؟ فيقول أي نعم أي ربي، حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه هلك قال: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم فيعطى كتاب حسناته”. وقال ﷺ: “ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه فاتقوا النار ولو بشق تمرة”.
ما أعظم بل ما أحوجنا إلى أن نستشعر هذا المشهد، فيه تكون أنت وأكون أنا وجليسنا ليس إلا رب العزة سبحانه وتعالى. فليس أنه جلال وهيبة الجليس، وإنما مع ذلك يكون الحرج عند سؤاله لنا عن ذنوب اقترفناها ومعاصٍ ارتكبناها وهو الذي سبق ونهانا عنها وحرّم علينا أن نأتيها. فعلاقتنا به سبحانه في هذه الحياة الدنيا وتعظيمنا له وخوفنا منه وطاعتنا له واجتنابنا محارمه، هي من ستحدد طبيعة وملامح تلك الجلسة يوم القيامة. وما أجمل ما قاله الأخ الحبيب فك الله أسره وفرّج كربه الأستاذ خالد أبو شادي المسجون في سجون السيسي: “هل جهّزت نفسك وأعددت العدة؟ فإنك لا تدري متى تُستدعى للمساءلة وتخضع للمحاسبة؟”. إذا كانت مساءلات الدنيا ومحاسباتها بين يدي الوالدين تحرجنا وبين يدي القاضي في المحكمة تحرجنا أكثر فكيف سيكون الحال لما تكون المساءلة بين يدي قاضي السماء الله سبحانه؟ إنه الخوف وإنه العرق وإنه الحرج، وما أصدق ما قاله الشاعر:
إذا ما قال لي ربي أما استحييت تعصيني
وتخفي الذنب عن خلقي وبالعصيان تأتيني
وقال الشاعر الآخر في وصف ملامح ذلك المجلس وتلك الخلوة مع الله يوم القيامة:
واحسرتي واشقوتي من يوم نشر كتابيه
واطول حزني إن أكن أوتيه بشماليه
وإذا سُئلت عن الخطا ماذا يكون جوابيه
واحرّ قلبي أن يكون مع القلوب القاسية
كلّا ولا قدمت لي عملًا ليوم حسابيه
بل إنني لشقاوتي وقساوتي وعذابيه
بارزت بالزلات في أيام دهر خاليه
من ليس يخفى عنه من قبح المعاصي خافيه
فبعملك في الدنيا وبعلاقتك معه سبحانه في الدنيا تحدد أنت وأحدد أنا طبيعة تلك الجلسة وملامح تلك الخلوة، ثم ومع العمل يكون حسن الظن بالله سبحانه، كما هو حال ذلك الأعرابي الذي قيل له: يا فلان إنك ستموت. قال: وماذا بعد الموت؟ قيل: إنه القبر. قال: وماذا بعد القبر؟ قيل: إنه البعث. قال: وماذا بعد البعث؟ قيل إنه العرض والحساب. قال ومن يحاسبني؟ قيل إنه الله رب العالمين. فابتسم الأعرابي وانشرح صدره وقال: الآن اطمأن قلبي، لأن ربي أرحم بي من أبي.
فلعلك أخي بالعمل وبحسن الظن بالله تعالى سيجمعك الله في الجنة مع من أحبوك واحببتهم في الله في هذه الدنيا وتستمتع بعناق وصحبه الحبيب محمد ﷺ وصحابته ونحن نبكي شوقًا وفرحًا، ثم الأعظم من ذلك النظر إلى وجه الله الكريم {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ} آية 26 سورة يونس. {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ*إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} آية 23 سورة القيامة. اللهم ارزقنا لذة النظر إلى وجهك الكريم وصحبة حبيبك ﷺ يوم القيامة.
أيها الظالمون سيزول ملككم
الظالمون ولغرورهم واستكبارهم فإنهم لا يقرأون التاريخ ولا يفسرون أحداث الكون ونواميسه إلا بما يوافق هواهم وغرورهم وينسون أن الملك لو بقي ودام لغيرهم لما كان وصل إليهم. هكذا كان فرعون وهامان والنمرود وكسرى، بل هكذا هم الفراعنة والنماردة الصغار من حكام هذا الزمان ، حتى وهم يرون أشباههم وأمثالهم من ملوك ورؤساء وزعماء أطاحت بهم شعوبهم، فهدّوا عروشهم ودخلوا قصورهم واضطروهم للهرب، ومع ذلك فإنهم لا يتعظون ولا يعتبرون حتى يأتي اليوم الذي يجري عليهم نفس الناموس ونفس القانون ولا ينجو من هؤلاء إلا من عرف طبيعة وحقيقة المسؤولية وثقل الأمانة وأنه مسؤول عنها أمام الله تعالى.
لما حضرت هارون الرشيد الوفاة وعاين السكرات صاح بقوادّه وحجّابه: اجمعوا لي جيشي وقادتي، فجاؤوا بسيوفهم ودروعهم لا يحصي عددهم إلا الله وكلهم تحت قيادته وأوامره، فلما رآهم هارون الرشيد بكى ثم قال: يا من لا يزول ملكه ارحم من قد زال ملكه، ولم يزل يبكي حتى مات رحمه الله. ومثل هارون الرشيد ابنه المأمون لما حضرته الوفاة قال: أنزلوني من سريري، فأنزلوه على الأرض ووضع خدّه على الأرض وهو يبكي ويقول: يا من لا يزول ملكه ارحم من قد زال ملكه.
إن ورع وتقوى هارون الرشيد وابنه المأمون وفهمهم لطبيعة الملك والأمانة، هي من جعلتهما يستشعرا هذا الخوف من الله تعالى، بينما نرى ملوكًا ورؤساء وأمراء قادتهم الظروف لأن يصبح أحدهم ملكًا أو رئيسًا ولم يسجل التاريخ له انجازًا وإذا به يتخيّل نفسه أنه وحيد زمانه وأن النساء لم تلد مثله، وأن فرعون وكسرى وهرقل والنمرود ما هم إلا أصفارًا عن شماله، فيظلم ويبطش ويعتدي على الحرمات ويسلب الحريات ولسان حاله يقول: {أَنَا۠ رَبُّكُمُ ٱلْأَعْلَىٰ} آية 24 سورة النازعات. {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} آية 38 سورة القصص.{أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} آية 258 سورة البقرة. ولعل لمثل هذا قال الشاعر مخاطبًا:
لئن كانت الأيام أعلت له يدًا يطول بها في ظلمة ويجاذب
فما من يد إلا يد الله فوقها ولا غالب إلا له الله غالب
إنهم الظالمون من أصحاب الجلالة والفخامة والسيادة والسمو الذين ما زالوا يتحكمون في رقاب شعوب العرب والمسلمين يسومونهم سوء العذاب، يستقوون عليهم بمخابراتهم وجيوشهم، بل يستقوون عليهم بعلاقاتهم مع أمريكا وروسيا بل وبصداقاتهم الجديدة مع إسرائيل وما تملكه من أجهزة التجسس الحديثة بها أصبحوا يرصدون أنفاس شعوبهم ولا يبالون بالمظالم ينزلونها على أبرياء كثيرين دون أن ينتبهوا، ولا أن يبالي هؤلاء بما قاله ذلك الرجل مخاطبًا الظالم كل ظالم: “أيها الظالم لا تستهن بمن لا يجد عونًا له عليك إلا الله”. ومثل ذلك قال يزيد بن حاتم: “ما هبت شيئًا قط هيبتي من رجل ظلمته، وأنا أعلم أن لا ناصر له إلا الله فيقول حسبي الله عليك، الله بيني وبينك”.
إنها سنة الله في الظالمين، سنة متكررة تحكي غرور القوة وجنون العظمة، فيصبح الظالم يبارز ربه وتكون النتيجة معروفة ومحسومة {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} آية 59 سورة الكهف. فما أكثر العبر وما أقل المعتبرين.
الفلوس تغيّر النفوس
إن الحديث عن علماء السلاطين الذين يبيعون دينهم بدنيا الملوك والرؤساء إرضاءً لهم، فهم مستعدون لليّ أعناق الآيات والنصوص من أجل أن تحقق أهداف أسيادهم بلا خوف من الله تعالى ولا وجل من شعوبهم. إن هؤلاء كانوا وما يزالون وسيظلون في ظاهرة مشينة ومسيئة لهم وللعلم الذي يحملونه في صدورهم ولكنها كما قيل “الفلوس تغير النفوس”. فيروى أن رجلًا فاسدًا كان له كلب وقد مات الكلب فجاء به ودفنه في مقابر المسلمين، فشكاه الناس إلى القاضي لأن في هذا إهانة للمسلمين وموتاهم.
استدعاه القاضي وسأله عن فعلته وما نسب إليه، فقال: نعم لقد فعلتها يا حضرة القاضي لأن كلبي العزيز قد أوصاني بذلك وأنا نفذت وصيته، فقال له القاضي: ويحك أتستهزئ بنا، كيف للكلب أن يوصي وصية؟ فقال الرجل صاحب الكلب: لا بل إنه زاد في وصيته أن أعطي للقاضي ألف دينار، فقال القاضي: رحم الله الكلب الفقيد!!!
تعجب الناس من القاضي وكيف غيّر رأيه فقال القاضي: لا تعجبوا فقد تأملت في أمر الكلب الصالح فوجدته من سلالة كلب أصحاب الكهف، لذلك فلا ضير أن يدفن في المقبرة مع الناس.
ليس فقط في الماضي كان أمثال هؤلاء من علماء السلاطين وعلماء البلاط وقد وصل الأمر بأحدهم أن يغيّر حديث رسول الله ﷺ الذي يقول فيه: “لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل”. ولأن الخليفة كان يجري سباقًا على الحمام الذي كان يربيه وإذا بعالم سوء يقول: قال رسول الله ﷺ: “لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل أو حمام”. لا بل إن عالم سوء آخر ذهب بعيدًا في مدح والثناء على ولي نعمته قائلًا له:
تلألأ وجهك الوضاء فينا كوجه الله ينضح بالجلال
وعليه فلم نستغرب على شيخ أزهري هو سعد الدين الهلالي أن يشبه السيسي القاتل المجرم بأنه يوحى إليه من الله تعالى، ولم نستغرب على شيخ سعودي هو محمد عبد الكريم العيسى أن يمدح هندوسيًا حاقدًا بما مدح به الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يكافأ على ترويجه لسياسات آل سعود وتقاربهم مع اليهود وبأن يكلف بخطبة يوم عرفة. أليس من بيننا من قالوا أن المستوطنين ليسوا كلهم أشرارًا وأن الأقصى هو جبل الهيكل، وأن بن غوريون قد أصبح رجلًا صالحًا بأصواتهم، ويتم الموافقة على تخصيص ميزانيات لصيانة ضريحه وحفظ تراثه، وهل تراث لبن غوريون غير إحلال النكبة في شعبنا وتشريد أهلنا.
تفاءلوا يرحمكم الله
في الوقت الذي كان فيه الملك محمد الثاني عشر أبو عبد الله الصغير يسلم مفاتيح غرناطة لملك الأسبان فرناندو وتغيب شمس الإسلام عن الأندلس كان محمد الفاتح يدق حصون القسطنطينية ويستلم مفاتيحها بعد هزيمته للامبراطور قسطنطين، ولتشرق شمس الإسلام على أوروبا شرقها ووسطها بعد أن كانت قد غربت عن غربها.
إنها شمس الإسلام يمكن أن تحجبها غيوم، ويمكن أن تمر بها ظاهرة الكسوف لكنها أبدًا لن تغيب إلى الأبد فسرعان ما تنقشع الغيوم وتنتهي ظاهرة الكسوف لتعود شمسنا تشرق من جديد.
يظن بعض السفهاء والصبيان أنه بوجود وتسلط بعص المارقين من عكاكيز إسرائيل وأمريكا من أصحاب الجلالة والفخامة والسيادة، فإن شمس الإسلام قد غابت وإلى الأبد خاصة وأن ما يجري في زمن العلوّ الإسرائيلي والاستكبار الأمريكي يأتي بعد تجربة ثورات الربيع العربي التي قامت بها الشعوب المظلومة. هذه الثورات وهذا الربيع الذي أجهضوه وتآمروا عليه ظانين بأن الأمة لن تعيش بعد اليوم إلا في خريف أبدي، ناسين أن بعد الخريف حتمًا سيكون شتاءً قارسًا يحمل مطرًا غزيرًا يزيل كل الزبد وكل القشور الجافة، ويذهب بها إلى مزابل التاريخ.
نعم إننا على ثقة بأن المستقبل للإسلام، وأن القادم أفضل. وإذا كانوا قد قالوا في الحكمة المشهورة “تفاءلوا بالخير تجدوه” فإننا نقول اليوم تفاءلوا بالنصر تجدوه، وتفاءلوا بالفرج تجدوه بإذن الله تعالى، وأنه بمقدار تفاؤلنا وثقتنا بربنا سبحانه سيكون انتصارنا، لأن اليائسين المحبطين وقد هزموا أمام أنفسهم فكيف سينتصرون على غيرهم. إننا نمد أيدينا إلى الله تعالى، نعتصم بحبل الرجاء وحبل الدعاء وحبل الأمل بينما حبل التشاؤم فإننا نقطعه، لأننا إن لم نقطعه فإنه سيخنقنا ويغرقنا. إننا نتفاءل بيقين أنه عند انقطاع أسباب الأرض يكون تدخل أسباب السماء، وعند انقطاع أسباب الأرض تتعلق قلوب العباد برب الأرض والسماء الذي لن يخيب من رجاه.
فلا عليكم أيها القابضون على الجمر، لا عليكم أيها الغرباء، لا عليكم ولا يضركم من خالفكم ولا من خذلكم حتى يأتي أمر الله وأنتم على ذلك، فاصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون.
إنها مرحلة وسنعبرها، وغيمة ستنقشع، وظلمة ستنجلي، تفاءلوا بالنصر وبالخير وبالفرج تجدوه يرحمكم الله.
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا..
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.