سنفرح بالعيد
ليلى غليون
بالرغم ما في القلوب من مزيج من المشاعر الملتهبة، مشاعر الفرح واليقين بوعد الله تعالى الذي أشعل فيها قناديل الأمل لا تنطفئ، ومشاعر الألم والقهر والحسرة على ما يفرزه واقعنا من ويلات ومشاكل اجتماعية وأحداث عنف وقتل دامية أظلمت علينا نهارنا قبل ليلنا.
ورغم ما يحدث لشعوبنا من قتل وبطش وتنكيل وسجون، رغم المكر ورغم الكيد لأقصانا ومقدساتنا، رغم كل المؤامرات التي يحيكها خفافيش الظلام للنيل من عقيدتنا وإسلامنا، فلا يزال للفرح متسع في القلوب. وللفرحة يوم العيد مذاقها وطعمها ورونقها الخاص، كيف لا وهي فرحة معطرة ومكللة بالطاعات والروحانيات من المفترض أن تنبض بها قلوبنا وتتزين بها وجوهنا ونظهرها في حركاتنا وسكناتنا أيام العيد، وإن كان حقا علينا الفرح والبهجة أيام العيد، إلا أن فرحتنا أشد وأعمق يوم نرتقي بفهمنا لمعاني العيد إلى ذاك المرتقى الصاعد الذي فيه يصبح عيدنا يومًا للشعور الواحد في نفوس الجميع، وكلمة واحدة على ألسنة الجميع، وملتقى واحد يلتقي فيه الجميع للتعاون على البر والتقوى والتواصي بالحق والصبر.
إنه ذاك اليوم الذي نرسم فيه بريشة الوحدة والأخوة لوحة فنية رائعة نطلق عليها لوحة العودة إلى الأصالة والجذور، إنه اليوم الذي نملك فيه الشعور بالقدرة على التجديد والتغيير الحقيقي نحو الأفضل، لا القدرة على تغيير وتجديد الثياب.
يقول الرافعي: “ما أشد حاجتنا نحن المسلمين إلى أن نفهم أعيادنا فهما جيدًا نتلقاها به، ونأخذها من ناحيته فتجيء أيام سعيدة عاملة، تنبه فينا أوصافها القوية، وتجدد نفوسنا بمعانيها، لا كما تجيء الآن كالحة عاطلة ممسوخة عن المعنى، أكبر عملها تجديد الثياب وتحديد الفراغ، وزيادة ابتسامة على النفاق ….”.
نعم سنفرح بالعيد رغم كل ذلك وسندخل الفرح في قلوب أبنائنا وأهلنا وأحبتنا وأرحامنا وجيراننا وكل من له حق علينا.
سنفرح بالعيد رغم الآلام والضيق والحصار والتهديد والقيود التي أدمت معاصم الأسرى والمخططات الابليسية التي تحاك لأمتنا ليل نهار.
سنفرح بالعيد رغم صرخات الثكالى وأنّات الأرامل ودمعات الأطفال في كل بقعة ترفع فيها راية التوحيد. سنفرح بالعيد رغم صوت القدس الحزين وصرخة الأقصى الأسير وهدهدة المآذن والقباب. سنفرح بالعيد رغم هذا الحاضر المر المرسوم بالدماء والدهاء والمكر، ولن يجد اليأس إلينا سبيلًا، ولن نمل من طول الطريق ووعورتها، ولن نمل من قلة السالكين فيها، ولا من سطوة الباطل وقلة حيلة أهل الحق، ولن نمل من انتظار الفرج بل سنتعبد الله تعالى بهذا الانتظار مهما طال زمانه، وسنبقى على الأمل منبع عقيدتنا محتسبين أمرنا إلى مولانا عز وجل مسلّمين بقدر الله تعالى تسليم المؤمنين الواثقين بأنه قدر كله خير رغم ما يبديه ظاهره من شر وأذى، متيقنين يقينًا لا ريب فيه أنه سيأتي ذلك اليوم، يوم الفرحة الكبرى الذي عنه قال الله عز وجل: (… ويومئذ يفرح المؤمنون). إنّه يوم العيد يوم الابتسام والمصافحة، يوم التراحم والتزاور، يوم التصالح مع الذات والتصالح مع الغير من أجل الله وفي الله بعيدين ومتخطين كل الحسابات الشخصية، والمنازعات والخلافات التي أدمت كبد المجتمع ومزقته شر ممزق.
فليس العيد الا أمل وتفاؤل وحب، فافتحوا أبوابكم على مصاريعها واقطفوا هذه الزهرات الجميلة الخلابة واستقبلوا كل الوافدين اليكم بعطرها وعبيرها وانعشوا بينكم روح الأخوة والمحبة واستنهضوا روح الايثار والتسامح والتغافر، وألقوا السلام وتلقّوه، فليس أروع ولا أجمل من سلام نتبادله في هذا الوقت العصيب، وليس أروع من تغافر وتسامح يحطم أسوار الجفاء والنفور المنتصبة بين القلوب، وليس أجمل من أيادٍ تتصافح ومشاعر من نهر المحبة تتدفق، وأرواح تلتقي، ونفوس تتصافى وألسن انطلقت بشعار واحد تنطق بالتهاني والمعايدات والتبريكات مرددة: كل عام وأنتم بخير.
نعم هناك الكثير من الحواجز المنتصبة التي تحول بيننا وبين بهجة العيد، فأهلنا في غزة وفي سوريا وفي العراق وفي مصر وفي اليمن والصين والهند وكشمير وغيرها من بقاع الأرض لا يزالون يتجرعون فظاعة الآلام والأحداث الدامية اليومية، ويمر عليهم العيد تلو العيد دون أن يشعر به أطفالهم الذين اغتيلت فرحته من قلوبهم بعد أن اغتيلت طفولتهم وبراءتهم وذبحت على مذابح من فقدوا انسانيتهم، ونحن إذ نرفع أكف الضراعة لقيوم السماوات والأرض في هذه الأيام المباركة، أيام العشر من ذي الحجة خاصة يوم عرفة والذي يوافق اليوم الجمعة، حيث يلتقي يوم عرفة مع يوم الجمعة ليلتقي الخير كله في هذه السويعات المباركات، ونجأر بالدعاء لمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف عنه السوء، أن يرفع الظلم عن إخواننا في كل مكان يستباح فيه دماء المسلمين وإنسانيتهم وهويتهم ومقدساتهم، وندعوه عز وجل أن يكشف الغمة عن مجتمعاتنا ويغير أحوالنا إلى أحسنها، فلعل فينا من هو أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبره، ولعل دمعة صادقة من أحدنا تنزل من خشية الله تكون سببًا لأن تتنزل علينا الرحمات والفرج العاجل بإذن الله عز وجل.