أخبار رئيسية إضافيةمقالاتومضات

الداخل الفلسطيني الراهن، التحديات والمستقبل (2)

صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي

المقدمة الثانية..

تتسم المجتمعات المعاصرة، والمجتمعات الفلسطينية جزء من هذه المجتمعات، بالتفكك والتشرذم والانفصال والرغبويات الجامحة، وهي صورة معاكسة للمجتمعات قبل الحداثة والتي اتسمت بالمركزية والتعاضدية، ومجتمعنا الفلسطيني من يوم نكبته وإلى هذه اللحظات لم يكن مجتمعًا ممزقًا بقدر ما انه كان مجتمعًا مُشتتًا سياسيًا واجتماعيًا، وهذه الحالة كما بيّنها الفيلسوف اليهودي زيجمونت باومان تتميز بالكثافة جعلت الشر سائلًا إذ هي تتقدم باستمرار ولا تتوقف مع تطور المجتمعات وتحولها إلى مجتمعات رغبوية،  وفي حالتنا المخصوصة- كفلسطينيين في الداخل- منذ النكبة وإلى هذه اللحظات لم ننجح بالخروج من فك النكبة وتداعياتها الممثلة بقيام إسرائيل واستعدائها إياهم واعتبارهم خطرًا أمنيًا يستوجب الحذر الشديد وبالتالي العمل الذي لا يتوقف لجعلهم دائما في حالة الدفاع عن النفس والتهيب من تكرار النكبة على الرغم من تغييرات في السياسات الحكومية اتجاه هذا الداخل.   كانت النكبة ولا تزال سببًا مباشرًا فيما آلت أليه أوضاع الشعب الفلسطيني عمومًا، ويبقى سؤال المسؤولية ومن يتحملها وكيفية توزيعها سؤالًا للمؤرخين بقدر ما انه سؤال للفلسطينيين أنفسهم كما مقادير المسؤوليات المتفرعة عن هذه النكبة كفعل مؤسس لما حدث للفلسطينيين من بعد.

تَحَول الفلسطينيون في إسرائيل إلى أقلية رغم أنهم أصحاب الأرض وأصحاب البلاد ،مما تسبب في كافة الإشكاليات والمتاعب والتحديات التي يعيشون وفرض عليهم واقعًا أفسد عليهم حيواتهم، ومع ذلك فقد شكلَّ مجرد وجودهم تحديًا لإسرائيل الدولة منذ اللحظة الأولى، رغم سياسات الإقصاء والاحتواء والفرز التي تعمل بها وعليه ليل نهار. ويعتبر الوجود الفلسطيني في إسرائيل أكبر تحدٍ امام هويتها المتجددة والمتخلقة القائمة على أساس من اليهودية أولًا والديموقراطية ثانيًا، وما تتناسل عنه من سياسات ومناهج تعامل (هلينجر، 19، 2019) وتتعاظم مكانة هذه المجموعة مع التطورات المستمرة ،سواء ما تعلق برسم وجودها والتحديات الوجودية التي باتت تهدده وفي مقدمتها العنف والجريمة والاختراقات الأمنية وعجمية اللغة والتحولات السلوكية المرافقة للحداثة والكونية العالمية المتأثرة من متحولات العالم الرقمي، أو ما تعلق بعوامل تخص الدولة والمجتمع الإسرائيلي.

كشفت هبة القدس والأقصى عام 2001 عن حجم أزمة الثقة القائمة بين المؤسسة الإسرائيلية ومن خلفها المجتمع الإسرائيلي والداخل الفلسطيني، بل وكشف قانون القومية الذي سنَّ عام 2018 عن عمق الاحتيال الإسرائيلي اتجاه الطائفة المعروفية التي قُتل العشرات من أبنائها في معارك إسرائيل مع العرب والفلسطينيين ويخدم جلهم في مؤسسات الدولة الأمنية، ويقدمون لها خدمات جليلة، ولذلك تصاعد باستمرار معطى أزمة الثقة بين المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة والمجتمع الفلسطيني في الداخل، وعمق هذا المعطى وجعله غير قابل لاحتواء الجريمة المنظمة والعنف الذي بات معلومًا لكل ذي لبِّ، أنه إن لم يكن موجهًا ومدعومًا فإنه مسكوت عنه لأنه يخدم أجندات تصب في الكيانية الإسرائيلية وتشرذم وتفكك وانهيار الكيانية الفلسطينية التي تعيش أزمات متتالية. والداخل الفلسطيني اليوم يرفع شعارات كلها تناوئ منظومة المبادئ المتعلقة بشكل النظام وهيئاته ابتداء من رفضه دولة تُعَّرِفُ نفسها على أنها يهودية وديموقراطية، بُنيت على هذا الأثر كامل السياسات المتعلقة بالوجود العربي الفلسطيني والتعامل معه، وانتهاء بقانون القومية الذي سُنَّ عام 2018 كتأكيد ديني-سياسي-لاهوتي ليهودية الدولة، وأن يهوديتها مقدمة على الديموقراطية بما تحمل يهودية الدولة من استحضار للتاريخ والجغرافيا التوراتية، وما تحمله من سياسات شرعنا نرى عناوينها الكبرى في الضفة الغربية والنقب والحرب على الأرض، كما الحرب الجارية في القدس والمسجد الأقصى. فإسرائيل عمليًا بما تملك من قوة كبيرة مادية وعلمية وتقنية تُسخر لتحقيق أجندات بعينها تقع في دوائر الشر السائل الذي بيّنه “زيجمونت باومان” في كتابه الفذ “الشر السائل”.

جمعٌ من التحديات يواجه وسيواجه المؤسسة الإسرائيلية برسم وجودها في حضرة الداخل الفلسطيني، فالفلسطينيون وفقا لقراءات العديد من المفكرين الإسرائيليين يتقدمون خطوة خطوة نحو الانفصال عن المجموع الإسرائيلي، وتتملكهم حالة من الانعزال عن هذا المجموع كما الاغتراب (هلينجر 2019، 19) ويتبنى المجتمع في الداخل الفلسطيني مجموعة من الطروحات تهدد وتدمر أركان الدولة القائمة على اليهودية والديموقراطية بغض النظر عن تقديم أي منهما في التعريف، فهم يقترحون بديلًا يتمثل في نظام ديموقراطي تعددي مدني، أو نظام ديموقراطي ثنائي القومية أو دولتين لشعبين كما هي طروحات الأحزاب والحركات العلمانية في الداخل الفلسطيني أو طروحات الحركة الإسلامية الشمالية المحظورة إسرائيليًا الداعية للمجتمع العصامي والرافضة للاعتراف بدولة إسرائيل (مصدر سابق، 19). والمجتمع العربي في الداخل الفلسطيني ما زال “شفافًا” اتجاه المجموع الإسرائيلي، فالإسرائيليون منذ قيام دولتهم على انقاض أرض الفلسطينيين اتخذوا طرقًا محددة للتعامل مع من تبقى من الفلسطينيين بحيث حافظت المؤسسة على كافة الأوراق التي تمكنها من استدامة السيطرة وإبقائهم في مكانة متدنية، فهذه المؤسسة هي من قررت مكانتهم الاجتماعية والتعليمية والاقتصادية، ولذلك لم يتم إشراك العرب قط في أي حكومة إسرائيلية منذ قيامها (تتجلى حالة الاغتراب في عدم التعاطف والتماهي مع الرموز الوطنية الإسرائيلية مثل يوم الاستقلال ويوم قتلى الجيش والعديد من القضايا ذات الصلة بالمجتمع والدولة)، (نويربرجر2016، 91-92) اللهم إلا في حكومة بينيت حيث شاركت القائمة الموحدة تحت ظروف ووضعية ذات صيرورة خاصة.

حدّدت المؤسسة الإسرائيلية سياساتها اتجاه الفلسطينيين في الداخل على أساس من ثلاثة محددات جوهرية تتعلق مباشرة بالدولة: الطابع الديموقراطي للدولة، الطابع اليهودي ومن ثم الصهيوني للدولة، والطابع الأمني للدولة وما يرافقه من تقديرات أمنية، وعادة عندما تقع تناقضات بين هذه المحددات لتحديد ماهية السياسات اتجاه الداخل الفلسطيني، فإنَّ المحدد الديموقراطي يوضع جانبًا (يحيد) لصالح الجمع بين المحددين اليهودي-الصهيوني والأمني (AL-HAJ, 2000: 110-111) ولذلك فسياسات المؤسسة الإسرائيلية اتجاه هذه المجموعة من الفلسطينيين تبنت عقيدة قومية

وصهيونية لا هوادة فيها تتوسل من خلالها تحويل المواطنين العرب من حملة الهويات الزرقاء الى مواطنين درجة “ب” أو سكان درجة ثانية، وذلك عبر منظومة ذكية من الاستبعاد والسيطرة والرقابة من جهة وسياسات الإضعاف والإهمال المتعمد في النواحي الاجتماعية والتعليمية والاقتصادية والثقافية من جهة أخرى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى