أما آن لي أن أستحي من ربي؟
الشيخ كمال خطيب
في غمرة تزاحم الأحداث محليًا وإقليميًا وعالميًا، والتي تمسّ كافة نواحي الحياة سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وفكريًا، لا بل إن رحى كثير من تلك الأحداث فإنها تدور وتقع في بلاد العرب والمسلمين. ورغم أن حرب روسيا على أوكرانيا قد أخذت حيزًا واسعًا من هذه الأحداث، لكنها كذلك لها انعكاسات وتأثيرات مباشرة على العرب والمسلمين.
ولأن كثرة الأحداث وتداعياتها واختلاط الأوراق فيها قد أوصلت البعض لا بل الكثيرين إلى حالة بلبلة واضطراب في البوصلة، وتساؤلات كيف ولماذا ومتى؟ بل ولأن البعض لم تكن موازينه إيمانية وكانت قراءته للأحداث قراءة مادية فقط، فإن هؤلاء قد أصيبوا بانتكاسة معنوية صعبة.
وحتى لا تختلط علينا الأشياء، وحتى لا يتشابه البقر علينا كما حصل مع قوم موسى عليه الصلاة والسلام، فلا بد من استمرار الشحن الإيماني، ولا بد من تذكير بعضنا البعض بموازين سليمة بها نزن الأشياء وبها ننظر إلى الأحداث أنها الأشياء والأحداث التي قال عنها النبي ﷺ في وصف بعضها: “يتقارب الزمان، ويظهر الجهل، ويقلّ العلم، ويفشو الزنا، ويشرب الخمر، ويكثر الهرج. قيل يا رسول الله ما الهرج؟ قال: القتل”.
ولأن اختلاط الأشياء على الناس قد خلّف آثارًا وترك بصمات على سلوكيات الناس وعلى طعامهم ولباسهم وعاداتهم، حتى لا يكادون يستطيعون الفكاك عنها، لذلك كانت هذه النصائح واللطائف والمواقف لعلها تساهم في إعادة ضبط الموازين وترتيب الأوراق.
أنت الراكب وأنا الماشي
بينما إبراهيم بن أدهم يسير إلى بيت الله الحرام بمكة إذ لقيه في الطريق أعرابي يركب ناقة له، فقال الأعرابي لإبراهيم بن أدهم: إلى أين يا شيخ؟ فقال إبراهيم: إلى بيت الله الحرام، فقال له الأعرابي: وكأنك مجنون؟ تسير إلى بيت الله الحرام بلا زاد ولا دابة ولا دليل والسفر طويل؟ فقال إبراهيم رضي الله عنه: إن لي مراكب كثيرة ولكنك لا تراها. فقال الأعرابي: وما هي؟ فقال إبراهيم: إذا نزلت عليّ نعمة ركبت مركب الشكر، وإذا نزلت عليّ بلية ركبت مركب الصبر، وإذا نزل بي القضاء ركبت مركب الرضا، وإذا دعتني النفس إلى حرام قلت لها يا نفس إن ما بقي من العمر أقل مما مضى. فقال الأعرابي لإبراهيم بن أدهم وقد أدرك أن عقيدته وموازينه أثبت وأعمق، يا إبراهيم: سر على بركه الله فوالله إنك أنت الراكب وأنا الماشي.
فهل نحن ممن يقابل النعم بالشكر والبلاء بالصبر؟ ونقابل القضاء بالرضا والاحتساب؟ وهل نحن وأنا وأنت ممن إذا دعتنا نفوسنا الأمّارة بالسوء إلى المعاصي والآثام والحرام نقول لها ونذكّرها بل ونزجرها قائلين يا نفس إن ما تبقى من العمر أقل مما مضى فعلام نعصي الله تعالى؟
خمس آيات لا تحجبك عن الله
سجن أحد الطغاة رجلًا من الصالحين وكان اسمه الشريف بن طباطبا، فبات الرجل الصالح تلك الليلة في سجنه، وإذا به يرى الرسول ﷺ في المنام يقول له: سجنك فلان؟ قال نعم يا رسول الله. فقال له رسول الله ﷺ: فأين أنت من الخمسة التي لا تحجب عن الله؟ قلت ما هي يا رسول الله؟ فقال: قوله تعالى: {….وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ*الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} آية 155-156 سورة البقرة.
وقوله تعالى: {الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إنَّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكم فاخْشَوْهم فَزادَهم إيمانًا وقالُوا حَسْبُنا اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ} آية 172 سورة آل عمران.
وقوله تعالى:{وأيّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ* فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ… } آية 83-84 سورة الأنبياء.
وقوله تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} آية 87 سورة الأنبياء.
وقوله تعالى: {فَسَتَذۡكُرُونَ مَاۤ أَقُولُ لَكُمۡۚ وَأُفَوِّضُ أَمۡرِیۤ إِلَى ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ بَصِیرُۢ بِٱلۡعِبَاد*فَوَقَاهُ ٱللَّهُ سَیِّـَٔاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِـَٔالِ فِرۡعَوۡنَ سُوۤءُ ٱلۡعَذَابِ} آية 44-45 سورة غافر.
فما أحوجنا في هذا الزمان الصعب والأيام العصيبة والفتن التي نعيشها، ما أحوجنا وقد تزاحم علينا الأعداء والظلَمة وطعننا الإخوة في الظهر طعنات الغدر، وضاقت علينا الأرض بما رحبت، ما أحوجنا لنظل نعتصم بحبل الله ونقف على بابه سبحانه وندعوه ونلحّ عليه بهذه الخمس التي لا تحجبنا عنه، ونكثر من قول: {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}، {حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} {… اني مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}، {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}.
أما آن لي أن استحي من ربي ؟!
عُرف عن زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان كثير السجود حتى أنه عرف بالسجّاد، وكان مما عرف عنه أنه كان في سجوده يردد ويقول: إلهي غارت نجوم سماواتك، وهجعت عيون أنامك، وأبوابك مفتحات للسائلين. جئتك لتغفر لي وترحمني وتريني وجه جدي رسول الله ﷺ يوم القيامة. وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك، لكن سولت لي نفسي وأعانني على ذلك سترك المرخى به عليّ. يا رب وبحبل من أعتصم إذا انقطع حبلك عني؟ واسوءتاه غدًا من الوقوف بين يديك إذا قيل للمخفين جوزوا، وللمثقلين حطوا، ويلي كلما طال عمري وكثرت خطاياي ولم أتب، أما آن لي أن أستحي من ربي؟!
وكان يردد رضي الله عنه ويقول ويناجي ربه:
أتيت بأعمال قباح رديئة وما في الورى عبد جنا كجنايتي
أتحرقني بالنار يا غاية المنى فأين رجائي فيك وأين مخافتي
فكان اذا سمعه أحد أصحابه يقول هذه الأبيات ويبكي، يقول له: أمثلك يقول هذا وأنت أبوك الحسن وأمك فاطمة وجدك رسول الله ﷺ، فقال زين العابدين: هيهات هيهات، أما سمعت مولانا يقول: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} آية 101 سورة المؤمنون.
ليسمع هذه الآية وليسمع هذا من يفتخر بنسبه وعائلته ويظن أنه ابن أكرم الأكرمين، وفي عائلة كل واحد منا السفيه وشارب الخمر والزاني والحشْاش وتارك الصلاة ولعله العميل، فكيف نفخر بنسب هذا حاله بينما زين العابدين يبكي رغم نسب يصله بجده رسول الله ﷺ، وقد قال : “ومن بطّأ به عمله لم يسرع به نسبه”.
عليكم بخمس:
قال شقيق البلخي عليكم بخمس خصال فاعملوها:
– اعبدوا الله بقدر حاجتكم إليه.
– خذوا من الدنيا بمقدار عمركم فيها.
– وتزودوا في الدنيا بمقدار مكثكم في القبر.
– واعصوا الله بقدر طاقتكم على عذابه.
– واعملوا للجنة بمقدار ما تريدون فيها المقام.
لقد خلقنا الله سبحانه من أجل أن نعبده ونستقيم على أمره، وما جُعلت هذه العبادة إلا لتكون هي المهر الذي يوصلنا إلى الجنة. فمن أراد الجنة وسعى لها سعيها فلا بد أن يتخفف من أحمال الدنيا لأنها ستعيق وصوله إلى الجنة. وعليه فقد كانت وصية الرجل الصالح شقيق البلخي بأن نعمل بهذه الخصال الخمس، وكلها تدور حول عبادة الله وطاعته وعدم معصيته ليقربنا هذا من جنته ويبعدنا عن ناره سبحانه، وفي العمل بهذه الخصال فإنه الفوز العظيم.
خمسة لا تصاحبهم:
قال جعفر الصادق لا تصاحب خمسة:
– لا تصاحب الكذاب فإنك منه على غرور، فإنه يبعد إليك القريب ويقرب إليك البعيد.
– لا تصاحب الأحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرك.
– ولا تصاحب البخيل فإنه يتركك وأنت أحوج ما تكون إليه.
– ولا تصاحب الجبان فإنه يسلّمك عند الشده ويفر.
– ولا تصاحب الفاسق فإنه يبيعك بأكلة أو بأقل منها. قال وما أقل منها؟ قال يطمع فيها ثم لا ينالها.
لأننا نعيش في الزمن الذي تغلب فيه المصالح على المبادئ والثوابت، الزمن الذي أصبح تباع فيه الضمائر، الزمن الذي أصبح فيه يرى الرجل الذي يصبح مؤمنًا ويمسي كافرًا ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا يبيع دينه بعرض من الدنيا، الزمن الذي أصبحت تباع فيه المواقف وتعرض في مزادات علنية في بورصة السياسات المتقلبة .
فكانت وصية جعفر الصادق وهو من ذرية الحسين بن علي كرم الله وجهه وعرف بالصادق لأنه لم يعهد عليه الكذب مثلما قيل عن زين العابدين بن الحسن أنه السجّاد لكثرة سجوده، أن يتم اختيار الصحبة الحسنة التي تعينك على طاعة الله تعالى وفعل الخيرات. أما الكذاب والأحمق والبخيل والجبان والفاسق، فإنهم ليسوا أهلًا للصحبة لأن صحبتهم ستكون محفوفة بالمخاطر، ولأن أمثال هؤلاء سيسعون لتحقيق وتغليب مصالحهم على حساب صحبتهم لك، ولذلك قال الشاعر:
لا خير في ودّ امرئ متلون إذا الريح مالت مال حيث تميل
وما أكثر الإخوان حين تعدهم ولكنهم في النائبات قليل
إذًا كانت وصية جعفر الصادق بخمسة عليك أن لا تصاحبهم لأن صحبتهم لن تفيدك في شيء بل إنها التي تسيء إليك وتجعلك تندم ولكن لات حين ندامة. إنه الفارق الكبير أن هناك من يصاحبك لأجلك، وهناك من يصاحبك لأجل مالك، وكما قيل:
إذا قلّ مالي فلا خلّ يصاحبني وفي الزيادة كل الناس خلّاني
كم من عدو لأجل المال صادقني وكم صديق لأجل المال عاداني
لا شيء في الدنيا يساوي العافية
قال الشاعر:
عاشر بمعروف فإنك راحل واترك قلوب الناس نحوك صافية
واذكر من الإحسان كل صغيرة فالله لا تخفى عليه الخافية
لا منصب يبقى ولا رتب هنا أحسن فذكرك بالمحاسن كافية
واكتب بخطك إن أردت عبارة لا شيء في الدنيا يساوي العافية
إنها العافية في الدين والدنيا كما كان النبي ﷺ يدعو، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: “كان النبي ﷺ يدعو هذه الدعوات حين يمسي وحين يصبح: اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة. اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي. اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي”. يا من سترتنا في الدنيا لا تفضحنا لا في الدنيا ولا في الآخرة يا رب العالمين.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون