في الشر السائل وسؤال المسؤولية: ماذا تعني عودة العنف لداخلنا الفلسطيني بهذه الوحشية؟
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
لفت انتباهي وانا أتابع الشأن العراقي- ضمن اهتمامي بقراءة التحولات الجارية في المجتمعات السنية والنكبات التي تتعرض لها- مطلع هذا الأسبوع، بيان صادر عن رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي أنّ حكومته ستحارب التطرف والجريمة المنظمة، وكلاهما سبب مباشر لليبرالية الحاكمة في العراق تحت الحمايات الأمريكية والإيرانية ولكل منهما مصالحه البيّنة في العراق. إذا كانت دولة بحجم العراق تعاني من الجريمة المنظمة وهي الدولة التي يتشاطر الحكم فيها منظمات طائفية تدّعي الولاء الحسيني، فماذا تقول مجموعة استحالت أقلية بفعل عوامل ليس هنا المقام لذكرها وتحليلها كالفلسطينيين في الداخل الفلسطيني، لا تملك الأدوات والقدرات المالية والعملياتية التي يمكنها أن تعالج الجريمة المنظمة وتنهيها. بيد أنّ هذا الخبر يشي أن المسألة- أي الجريمة المنظمة- أكبر من المجتمعات وتقع تحت رعايات أممية عالمية تشكّل مخابرات الدول الكبرى جزءًا من تعقيدات المشهد، وهو ما يدفع إلى مجموعة من التساؤلات من مثل: علاقة التحولات الجارية في مجتمعاتنا المشرقية مع التحولات العالمية التي تقودها دول عظمى كالصين والولايات المتحدة لخلق أجيال جديدة مستعبدة! وسؤال الأخلاق ودفعه من اليقيني إلى النسبي خاصة تلكم المرتكزة على بعد ديني كالشذوذ الجنسي وجعله مسألة حرية شخصية، وهي مسألة تتمدد في مجتمعاتنا المحلية، أو كقضايا اللباس وترك الحشمة وجعلها من المسائل الشخصية، بحيث أضحى سؤال الحرية مقلقًا للغاية بعدئذٍ تهدمت جُدُر الحياء واضحت الفضيلة من المسائل النسبية إلى جانب تعدد مسائل الولاء والهويات المتشظية بين الذات والجماعة والمجموعة والشللية. ولكل مما ذكرت مقارباتها، ولكن الأكثر وضوحًا بين أجيال الداخل الفلسطيني تعدد ولاءاتها تبعًا لمنطقي المنفعة والكسب، ومن ثم تتخلق هويات تبعًا لما ذكرت تكون فيها الهوية الجامعة المؤسسة على منظومات الدين والقيم في ضمور مستمر لصالح الكسب الفوري، إلا إذا تعرضت للاستفزاز والمواجهة عندئذٍ تتقدم الهويات الجامعة، وهذا ما حصل على سبيل المثال لا الحصر في هبة الكرامة في العام المنصرم. نحن نعيش في العصر الرقمي الذي باتت فيه أسئلة العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا تفرض على الساحة بالقوة، والإجابة على مثل هذه الأسئلة يختصر مسافات تحوّل الإنسان إلى آلة استهلاكية نهمة وشرهة لا تتوقف، وهذا الأمر أحد بيانات الجريمة المنظمة المبنية على منطق الربح واستمراره، بغض النظر عن الأثمان التي يمكن أن تدفع للاستمرار في الكسب المادي، إذ في سبيله تتأسس منظومات قيمية داخل هذه المجموعات يكون الولاء المطلق اسها الأخلاقي وتبعاته دائمًا كبيرة ودامية في حالة نقضه أو وقوع خلل معه أو فيه، وبالتالي يتسيد الخوف الموقف وهو ما يميز العصر الرقمي الذي نعيش، حيث يستحيل الخوف إلى حالة سائلة لا تتوقف، تؤثر في الإنسان والجماعة وفي الشأن الخاص والعام، وهذا ما يدفع الإنسان، على سبيل المثال الشاب أو الأب إلى استبطان الخوف وجعله هاجسًا لا يتوقف، الخوف من المستقبل، الخوف من المعاش والرزق والكسب، الخوف من المرض، الخوف من المستقبل عمومًا، وهو ما يدفع الآلاف من شبابنا إلى حضن الجريمة المنظمة باعتبارها حامية من هذا الخوف السائل.
في الشر والمسؤولية..
بات مصطلح الشر في تفكيك ما بعد الحداثة، مرتبطًا بالشر بما يحوي من كوارث وجرائم ليس أقلها الحروب المباشرة على شعوب بعينها، تحت خلفيات فاشية أو عولمة الجريمة والجريمة المنظمة وجعل تجارة مثل المخدرات مسألة كونية وهي بيان للشر، ومن ثمّ فإن ما بعد الحداثة الذي كان كناية عن التحولات التي شهدتها البشرية بعد الحرب العالمية الأولى. ويذهب كاتب هذه المقالة إلى أنّ ما بعد الحداثة يبدأ من العصر الرقمي المتجلي في اكتشاف التكنولوجيا وتسخيرها للإنسان، من ثم اكتشاف الحاسوب الذي شكّل أداة للثورة المعرفية، وكلاهما بيان للتطور المستمر للبشرية وقد تركت آثارها واضحة على المجتمعات سياسيًا، وتعتبر الحرب على العراق مطلع 1990 من القرن الماضي، مرحلة جديدة في ما بعد الحداثة، وقد رافق هذه الحرب ظهور الجوال ونقله من عالم الأمن والعسكرة إلى عالم الكسب والتجارة، ومعه تحوّل العالم إلى قرية صغيرة جعلت الشر سائلًا بامتياز، ومن بياناته السيطرة على الإنسان الفرد وتفكيكه لصالح شركات عملاقة تزيد مداخيلها وميزانياتها عن دولٍ تعداد سكانها بالملايين. وهذا الشر تأثر منه مجتمعنا ثلاث مرات: أولًا في سياق سياسات يهودية الدولة وتداعياته المباشرة علينا منها مساعي تفكيك مجتمعنا التي لم تتوقف، وثانيًا التّحوّلات التي جرت في مجتمعاتنا المحلية كانت نتائجها كارثية أوصلتنا إلى المرحلة الثالثة، مرحلة الانهيار وسيطرة الشر على عديد المواقع والأحوال، ليتحول دعاته إلى رموز ونرى أمامنا بعضًا من بيانات العبودية المختارة المغلفة بثوب الجهل والكبر. ولذلك يكون سؤال المسؤولية مهمًا دائمًا.
الداخل الفلسطيني وسؤال المسؤولية..
عودة إلى الخبر العراقي وسؤال المُقاربات، فإذا كانت الحكومة العراقية قد أعلنت عبر رئيس وزرائها تحملها مسؤولية مواجهة الجريمة المنظمة، وأنها لن تكسر العراق حكومة وشعبًا، فإن ذات السؤال نحيله إلى واقعنا المحلي بما فيه من خصوصيات ونطرحها بشكل مباشر بما فيه من صعوبات واكراهات ذاتية: من يتحمل مسؤولية الجريمة المنظمة ومواجهتها؟ وهل هذه المجموعة، مجموعة منظمة تملك الإمكانيات والقدرات التي تجعلها تتجاوز هذا السؤال بفعل الواقع الذي ارتهن إليه الداخل الفلسطيني، فسياسيًا ارتهن إلى السياقات السياسية الفاعلة تحت سقف الكنيست، وكانت النتائج واضحة للجميع.
واجتماعيًا ارتهن لعديد من المؤسسات والجمعيات المتمولة من الخارج والتي حملت مهمة تغيير المجتمع ونجحت في جوانب وفشلت في أخرى، ولكن المحصلات النهائية نجدها شاخصة وحية في حيواتنا اليومية، إذ تفكيك الإنسان الفلسطيني وجعله صاحب منجزات فردية لا تعني أننا أمام مجتمع متضامن ومتماسك، بل نرى حالات من الإشباع الفوري- الغريزي لتتحول حياة هؤلاء في سياقاتها المجتمعية-الاستهلاكية إلى مجموعة تحديات، تشكّل مستقبل ثنائيات تضيء جوانب معتمة في مجتمعنا، من ذلك بيان جوانب العنف، يقابله السّلم والخوف، يقابله الأمن والانفلات، يقابله الالتزام والاستهلاك، يقابله التدبير.
وهذه الثنائيات تحتاج- عمليًا- إلى رقابة دقيقة الهدف من ورائها تسجيل الملاحظات التي يمكن من خلالها بناء تصورات وبرامج عمل تصب في كسوبات مجتمعاتنا في الداخل الفلسطيني، تؤسس عمليًا بفضل عوامل مساعدة مباشرة ليس أقلها العمل الإصلاحي على اختلاف مراحله وتنوعاته، وهو ما يجعلها ترقب تضاعيف المجتمع أثناء الحركة القائمة، سواء كانت تلك الإجرامية أو التصرفات المجتمعية الفردية العنيفة التي تتحول إلى أزمة مجتمعية، تدفع اثمانها عوائل وأسر(تضاعيف المجتمع نقصد بها حواشي المجتمع فكما ان الكتاب له حواشي كذلك المجتمعات لها حواش حية كالمجموعات المُستضعفة الفقيرة أو المقلقة كالعصابات..) وفي هذا السياق الذي نحن بصدده، نقرأ ما شهده مجتمعنا مؤخرًا من أعمال عنف، منها حرق لباصات تعود لمتعهدين عرب تكمن خلفياتها كما تناقلته وسائل الإعلام رفض المتعهد دفع الخاوة لمجموعات/ مجموعة تجبي أموالًا حرامًا من أمثال هؤلاء، وكذلك حالات القتل التي شهدها مجتمعنا وذلك من بيانات الصراع بين عصابات الإجرام المنظم في السيطرة على مناطق وأسواق وأوضاع بعينها، ولهذا العالم نظامه وقوانينه الصلبة والخطيرة التي يكون فيها قتل الإنسان من بيانات السيطرة والإرهاب وتحقيق الخوف وتحويله لخوف سائل.
نضيف إلى ما ذكرنا انتشار ظاهرة القروض الربوية الفاحشة التي تشكل أحد أسباب العنف المفضي إلى كوارث، منها القتل. وقد انتشر هذا النوع من الفساد انتشار النار بالهشيم، حتى اضحى أحد أهم وأخطر القضايا التي تهدد السلم المجتمعي، ومرد هذا الأمر، إلى علاقات بينية مجتمعية تجمع الاستهلاك والسعي للربح السريع لتحقيق الاستهلاك والخوف من المستقبل ومتعلقات ذلك بالجريمة المنظمة التي تكسب أموالًا هائلة من هذه القروض وغيرها، وهو ما يتطلب المئات من العاملين لجباية هذه الأموال التي تجبى وفق اتفاقيات مسبقة مع المدينين.
هذا بيانٌ مقتضب لبعض من الأحداث الجارية في مجتمعنا، والتي هي- عمليًا- تجلٍ للتحولات التي مرّت ولا تزال في مجتمعنا الذي اندفع نحو الحداثة بكل سلبياتها، إذ تتعطل فيها الممارسات القديمة وأنماط الحياة السالفة، سواء تلكم المتوارثة أو المكتسبة، إذ تفرض مجريات الحياة بتعقيداتها ما بعد العلمانية والحداثة المؤسسة على الثورة المعلوماتية والتقنية والسايبرية التي تميز راهنًا الحالة الرقمية التي نعيش، إذ أحالت الإنسان الفرد من طوره الإنساني المتوارث إلى شيء جديد متأثر من أنماط وقيم وسلوكيات وقيم وافدة من خلف البحار، يهدف منشؤها إلى خلق الإنسان العبد الذي شكلت الأنماط السلوكية الوافدة الجديدة مظهرًا جديدًا لحياته، دفعته للتخلص من الأنماط المتوارثة إلى أنماط مستجدة وافدة تسعى للثراء عبر تلكم الأدوات الوافدة القادمة من العالم الرقمي: الجوالات والتطبيقات الموجودة والتي تزداد باستمرار، فضلًا عن جوانب ذات صلة، ولتحقيق هذا الثراء تتم تدخلات مجتمعية يمكننا رصد الكثير منها في مجتمعنا العربي الفلسطيني، والذي يشهد تحولات منذ ثلاثة عقود على كافة الصُعُد، كما المجتمع الإسرائيلي، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر، في الفوارق بين الأجيال في السلوك أو في استبطان القيم الوافدة أو تلكم القادمة من المجتمع الإسرائيلي ،هذا فضلًا عن التحولات في الشرائح المحسوبة على الطبقة المثقفة أو الطبقة الوسطى التي كسبت موقعها بفضل علمها وعملها.
في العشرية الراهنة تجلت العديد من الظواهر التي تقلق المجتمع، وفي الوقت ذاته تشكل البيان الحي المؤلم لواقعٍ مُعاش، لعل من أهم ما بتنا نعيشه، تفكك مجتمعنا ممثلًا بظاهرة الطلاق المرتفعة والتي باتت تتجاوز قطاعات جيلية بعينها، تعود أسبابها ابتداء إلى عبودية الاستهلاك المرتبط بالوفرة والثراء: وفرة المال الذي بات يستعبد مجتمعنا كمقدمات عبور للعبودية الاستهلاكية.
في ظل ما ذكرت، يطل علينا سؤال من المسؤول، هل تقع المسؤولية على الأسرة والأب والأم، أم على المدرسة كدفيئة تربوية أو المجتمع كحاضنة مجتمعية أو النخب المثقفة برسم كونها موجهًا تربويًا وثقافيًا، أم المؤسسات الثقافية والأهلية بكونها من ممكنات العمل المجتمعي أم الأحزاب والحركات السياسية التي من مهامها قيادة الحياة، أم الجماعات الدينية باعتبارها حارسة الدين وموجه الناس للعبودية المطلقة التي خلاصاتها التحرر من الممكن الزائل، أم هي الدولة التي تعرف نفسها أنها دولة يهودية ولليهود وبنت استراتيجياتها في التعامل معنا على أساس من هذا التعريف؟ لطمات أحداث العنف في داخلنا الفلسطيني بوحشية، ذكرتنا بالأيام الخوالي التي ما زالت جراحها لم تندمل، وبات سؤال العلاقة بين العنف والمؤسسة الحاكمة، وسؤال الأخلاق البينية والتحولات الجارية في مجتمعنا، مُلحًا وعينيًا.
ركّزت الليبرالية بنسختها التاتشرية والريغينية على الإنسان الفرد وجعلته شيئًا مشتتًا استهلاكيًا وذرائعيًا ومحور حياته يدور حول اللقمة. قرابة الدم باتت تتَخَطَر في مجتمعنا الذي نعيش وصارت مقارنات اليوم بالأمس في مختلف قضايا الحياة ديدن الجالسين، وذهب بعض المصلحين واهل الصلاح إلى نبذ وترك كل تحليل وتوصيف وتفكيك، تحت لافتة كفانا تنظيرًا وآن أوان العمل لاستدراك ما يمكن استدراكه قبل فوات الأوان، فما ابتليت أمّة بالجدل إلا حطَّ الشر رحاله بين ظهرانيها وصدق من قال: “إذا أراد الله بقوم شرًا ألزمهم الجدل ومنعهم العمل”.
ومن قرأ تاريخ الأمة الإسلامية سيجد أنّ احد أسباب نكباتها وقوعها بشر الجدل والحوارات السفسطائية التي لا يتخلق عنها عمل، وفي الوقت ذاته من درس تاريخ الفقه واصوله والفكر وبياناته، سيجد أنّ العمل كان سببًا في إيجاد هذه العلوم، إذ العمل يسبق العلم في الأصول بحكم أنه تجريبي فهل وصلنا إلى مرحلة نقول فيها إن مجتمعنا إذ تتلبسه نشوات الشر، إنما يدفع ثمنًا طبيعيًا بعد أن تخلف عن قيمه وأخلاقه واعرافه ومبادئه، واستبطن حيوات ليست له وتأثر عملًا وخُلقا بالوافد من خلف البحار ومنظوماته وقيمه العلمانية ومظاهر الفسوق والتردي الذي نراه.