نعم، نستخرج البنسلين من العفن لكننا لا نتعفّن
الشيخ كمال خطيب
إنها ليست منهجية وتبريرات أصحاب الجلالة والفخامة فقط الذين يفلسفون مشاريع التطبيع والعلاقات السرية مع المؤسسة الإسرائيلية طمعًا في نيل رضاها واتقاء لشرّها وخوفًا من بطشها، وإنما هو سلوك أحزاب وحركات وتيارات في داخلنا الفلسطيني ممن يبررون ويفلسفون انحرافهم الفكري وانبطاحهم وتنازلهم عن ثوابتهم الدينية والوطنية بل وارتمائهم في حضن أحزاب الصهيونية الدينية اليمينية.
إنهم المرجفون والمثبطون الذين يعتبرون وضوح الموقف وعزة الانتماء وعدم المداهنة في مواجهة الظلم ضربًا من ضروب الجنون والحماسة غير المحسوبة والتهور وعدم العقلانية. إنهم دعاة الواقعية والمرونة السياسية والتجديد الديني وقد وصلت إلى حدّ المسخ وتشويه الهوية بل وجعل الفكرة التي كانوا ينتمون إليها سخرية وتندّر.
إنهم ويا لسخافة عقولهم يعتبرون أن مواقف الاعتزاز ووضوح الموقف وعدم التلعثم في الدفاع عن الثوابت سببًا من أسباب نكبة ستقع علينا وشرّ سينزل بنا، وتكشير أنياب من قبل المؤسسة الإسرائيلية، ومجازر قد ترتكب بحق شعبنا إذا ما شعر قادة المؤسسة الإسرائيلية أنهم في وضع حرج حيث يعتبر هؤلاء المثبطون والفهلويون أنه يمكن تدارك ذلك في المزيد من الانبطاح والمزيد من تقبيل الأيدي والأرجل ومزيد من مسخ الهوية.
ليس أن هؤلاء المثبطين هم قادة مشاريع التطبيق ولا أنهم من رموز مشاريع التجديد في أيامنا هذه، وإنما كان مثل هؤلاء في عهد النبي ﷺ، ومن يقرأ الآيات 12- 20 من سورة الأحزاب سيجد نفس المنطق ونفس التبريرات لما فعلوه يومها حتى مع رسول الله ﷺ ولما يفعلونه اليوم {وَإذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا ۚ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ ۖ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} آية 13 سورة الأحزاب.
ليتهم يعيروننا بما هو عار
عن كعب رضي الله عنه قال: “ليأتين على الناس زمان يعيّر المؤمن بإيمانه كما يعيّر الفاجر بفجوره”.
إن الوضع الطبيعي والمنطق السليم أن الشاذ والمتجاوز لحدود الدين والأخلاق والقيم ومن يفجر بأخلاقه وأفعاله يستحق الزجر والنهي إذا لم يُجدِ معه النصح، لأن فجوره مخالف للحالة العامة الدينية والاجتماعية فلا بد من نصيحته وتعييره ببشاعة أفعاله، ولكن يصبح الوضع غير طبيعي وغير مألوف بل إنه دليل انتكاسة وانحراف وتغيير جوهري بل لعلّها ردة إيمانية وأخلاقية واجتماعية أن الألسن السليطة وأن العيون الشريرة والأقلام المشبوهة تلاحق وتطال وتنال وتعيّر المؤمن والفاضل والأصيل وصاحب الخلق والدين، فيصبح المؤمن محل اتهام ويُعاب عليه أنه يتمسك بالدين وبمكارم الأخلاق. إن هذه ردّة وانتكاسة للفطرة لا يشبهها إلا انتكاسة قوم لوط حيث شاع بينهم الشذود والانحراف بممارسة الرذيلة بين الرجال بعضهم ببعض ومن لم يفعل ذلك فإنه أصبح يعيّر بطهره واستقامته، ولأجل ذلك الطهر والاستقامة فإنه يجب أن يعاقب بالطرد من بلده وإخراجه منها {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ ۖ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} آية 82 سورة الأعراف.
لقد حذّر كعب رضي الله عنه من زمان ستأتي فيه هذه الردة وهذه الانتكاسة، وقد أتت ونحن نرى آثارها ليس فقط بوصف الشيوعيين والعلمانيين والليبراليين من يريد الالتزام بدينه بأنه رجعي وظلامي ومتطرف وأصولي، بل إنها وصلت إلى حدّ أن يعيّر إسلاميون من يحافظ على ثوابته الدينية والوطنية بأنه غير واقعي وغير مرن ولا يسيّج على أبناء شعبه ويتركهم فريسة لتغوّل الحكومة الإسرائيلية، بل إنه بمواقفه الصريحة وانحيازه الواضح لثوابته فإنه سيجلب المتاعب والسخط على أبناء شعبه وهو بذلك يتحمل مسؤولية أي موقف وأي ظلم وأي مجزرة وأي نكبة يمكن أن توقعها بنا وعلينا المؤسسة الإسرائيلية التي يرتمي هو في حضنها ويجعل نفسه خاتمًا في أصبعها، بل ويروّج لسياساتها الظالمة وهو يتشدق بأمثلة شعبية تروّج للهزيمة والذلّ والانبطاح “بوس الكلب من ثمو تتوخذ حاجتك منه”، “زوج أمي هو عمي”، “الكف ما بتلاطم مخرز”.
في ستينات القرن الماضي اشتهرت أبيات من قصيدة قديمة قالها الخليفة العباسي المستنجد بالله وغناها الفنان العراقي الكبير ناظم الغزالي يقول فيها:
عيّرتني بالشيب وهو وقار ليتها عيّرت بما هو عار
إن تكن شابت الذوائب مني فالليالي تزينها الأقمار
فإذا كان الشيّب ليس عيبّا يعيّر به الرجال فإن صلابة الموقف وإن الاعتزاز بالهوية والحفاظ على الثوابت ومراغمة الظالم ليس عارًا ولا عيبًا يعيّر به، ولكن العيب والعار والخزي هو للمثبطين المنبطحين، الذين يقايضون على ثوابتهم في الوطن والقدس والأقصى بعلف وأموال يغدقها عليهم من قبلوا أن يكونوا عكاكيزه وأدواته، ولكن كما قال المثل “العيب على العايب”، وكما يقول المثل الآخر “العيب عند أهل العيب مش عيب”.
مثلما أن ذوائب الشعر (مقدمة الرأس) لما تشيب فإنها تزين الرأس، مثلما يزين القمر المضيء عتمة الليالي فإن الثوابت والحفاظ عليها هي مواقف تزين أصحابها وشعبها ومن ينادون بها. فكما لا يعيّر بالشيب والذوائب فإنه لا يعيّر بالثوابت يا هؤلاء.
لن يتركوك
قال الشهيد سيد قطب رحمه الله تعالى: “لن يتركوك حتى لو اعتزلت في بيتك، ولو أغلقت عليك بابك، فطالما نور الحق ينفذ ويشعّ من شباك بيتك فأنت تهديد يجب أن يزول ونور يجب أن ينطفئ”.
لطالما ظنّ الضعفاء والمهزومون أنهم كلما تذللوا للباطل، وكلما توسلوا له، وكلما سبّحوا بحمده، وكلما انحازوا إلى صفّه، وكلما فعلوا كل ما يرضيه فإنهم بذلك سيكفّوا شرّهم عنهم وما عرف هؤلاء لجهلهم بل لغبائهم أن الباطل مثل ماء البحر كلما شربت منه أكثر كلما ازددت عطشًا. إن هؤلاء وقد رضعوا حليب البراغماتية والواقعية والمرونة السياسية هذا الحليب المغشوش الذي جعلهم يتنازلون أكثر ويساومون أكثر ويبيعون كرامتهم وثوابتهم في بورصة المنافسات الحزبية الإسرائيلية وإذا بهم لا تساوي قيمتهم في نظر أولئك إلا {بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} إلا بعض ميزانيات وعلف وملايين هي فتات موائد اللئام.
قالت قبل أيام عضوة الكنيست من حزب نفتالي بينت عيديت سيلمان في تعقيبها على قرار عضوة الكنيست العربية غيداء ريناوي زعبي التي هددت بالانسحاب من الائتلاف ثم تراجعت بعد وعود لها بأموال وميزانيات، فقالت عضوة الكنيست عيديت سيلمان بسخرية “المشكلة اللي حلّها بالمال مش مشكلة”.
إن من طبيعة الأشرار الذين يحاربون المشروع الإسلامي ويحاربون دعاته ومن يحافظ على ثوابته أنهم لا يقبلون منك إلا أن تكون مسخًا مشوهًا ومخلوقًا طفيليًا تقتات على فتاتهم، وسيظلون يلاحقونك ولن يتركوك حتى لو اعتزلت في بيتك كما قال الشهيد سيد قطب ولو أغلقت عليك بابك، فطالما أنهم يرون نور الحق يشع من شباك بيتك ومن نبرات صوتك ومن دفقات قلبك فأنت بالنسبة لهم تهديد يجب أن يزول ونور يجب أن ينطفئ. ألست أنت بالنسبة لهم “عربي جيد” والعربي الجيد في نظرهم ووفق مقولتهم الشهيرة هو العربي الميت.
نعم، نستخرج البنسلين من الخبز المتعفن لكننا لا نتعفّن
قال الملاكم المسلم الشهير المرحوم محمد علي كلاي في واحدة من عباراته المشهورة: “إذا كان العلماء قد نجحوا في صناعة واستخراج البنسلين من الخبز المتعفّن فبإمكانك أن تصنع شيئًا من نفسك”.
هناك من يبررون ويفلسفون أخطاءهم عبر خوضهم معارك “وهمية” يعتبرونها بطولات سياسية وقدرات تعبّر عن حنكة ودهاء سياسي بزعم النيّة بتحقيق مصالح لشعبنا كحال من شاركوا في انتخابات الكنيست الصهيوني منذ العام 1949 وحتى يومنا هذا وهم الحزب الشيوعي الإسرائيلي وغيره من الأحزاب العلمانية، وكانوا دائمًا في صف المعارضة للحكومات الإسرائيلية المتعاقبة وكانت إنجازاتهم صفرًا كبيرًا، بينما كانت استفادة الحكومات الإسرائيلية من هذه المشاركة كبيرة جدًا. ولاحقًا جاءت القائمة العربية الموحدة بزعامة منصور عباس وتخيّلت نفسها أنها تخوض أم المعارك عبر الدخول في ائتلاف حكومي يميني برئاسة نفتالي بينت، وأصبحت شريكة رئيسية في هذا الائتلاف وتبرير ذلك عندهم هو التأثير من الداخل والدخول إلى عش الدبابير والعيش في بطن الحوت كما يوهمون أنفسهم لتحقيق مصالح وخدمات لناخبيهم.
إن المشاركة والاحتكاك لا تصل إلى حد الذوبان يا هؤلاء كما قال الاستاذ خالد أبو شادي عن امرأة فرعون: “عاشت امرأة فرعون في قصر فرعون وما ذابت في باطله”، وكما قال ابن مسعود رضي الله عنه: “خالط الناس ودينك لا تكلّمنه” أي لا تجرحه ولا تؤذيه ولا تشوهه. فإذا كانت نظرية محمد علي كلاي أن بالإمكان استخراج البنسلين من الخبز المتعفّن ولكن شريطة ألا نتعفن ولا نصاب بالعفن جرّاء هذه الرغبة في استخراج البنسلين لمساعدة ولشفاء مرضى السكري، فكيف لنا أن نسعى لشفاء الآخرين بينما نصاب نحن بالمرض والعفن.
أليسوا قد أصيبوا بالعفن الفكري من رضوا بقانون يهودية الدولة؟ أليسوا قد أصيبوا بالعفن الفكري من صوتوا لصالح قوانين دعم الشرطة ووحداتها التي تقتل أبناء شعبنا وتنكّل بنا في ساحات الأقصى؟ أليسوا قد أصيبوا بالعفن الفكري والأخلاقي من شارك في ائتلاف أغدق الأموال لدعم جمعيات الشذوذ في الوسط العربي؟ أليسوا قد أصيبوا بالعفن الفكري والسياسي والأخلاقي والعقائدي من أصبحوا يطلقون إسم جبل الهيكل على المسجد الأقصى المبارك، لا بل قالوا أن من حق اليهود الصلاة عند حائط البراق بل إنهم أسموه حائط المبكى باسمه اليهودي وليس باسمه الحقيقي التاريخي، إنه حائط البراق؟
نعم إن بالإمكان استخراج البنسلين من الخبز المتعفّن شريطة ألا نتعفّن، فإذا تعفّن من يستخرج علاج البنسلين فمن أين نأتيه بالعلاج؟ وإذا كان الملح يوضع على الأشياء حتى يحفظها من العفن والفساد، فكيف يكون الحال إذا كان الملح فاسدًا؟
سيندمون
لقد أخبرنا القرآن الكريم عن جماعة من أهل المدينة المنورة كانوا يبادرون في موادّة اليهود من بني قريظة وقينقاع وبني النظير وخيبر، فكانوا يتوددون إليهم ويتقربون منهم، بل ويوصلون لهم أخبار الصف المسلم، ورغم عدائهم السافر لرسول الله ﷺ، وكل ذلك من ضعف إيمانهم وفساد عقيدتهم حيث كان تبريرهم وتفسيرهم لذلك الموقف أنه يمكن أن تدور الأيام عليهم فيحتاجون إلى نصرهم. قال ابن عباس رضي الله عنهما: معنى ذلك أنهم يخشون ألا يتم الأمر لمحمد ولا ينتصر الإسلام فتدور الدائرة عليهم. وقيل أنهم كانوا يخشون الجدب والقحط والفقر فيحرمهم اليهود القروض والمال، فلذلك كانوا يتوددون إليهم فأنزل الله سبحانه قوله {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} 12 آية سورة المائدة.
لا أتردد بالقول أن من يعيّروننا بثبات الموقف واصفين إيانا بالتهور والحماسة والاندفاع وأن هذا قد يجرّ على شعبنا محنًا ومتاعب كما جرّ علينا محنة الحظر وإخراجنا عن القانون الإسرائيلي، بينما هم قد ارتموا في أحضان، بل تحت أقدام نفتالي بينت وشاكيد وليبرمان وغانتس وقد ملأوا أفواههم ماء اتجاه كل ما يجري بحق القدس والأقصى، وكل ذلك طبعًا بالأموال والميزانيات وخشية الملاحقة ونزول غضب حكام إسرائيل عليهم. إن هذا ليس له معنى إلا أنه مرض إيماني وسلوك يخالف سلوك أصحاب رسول الله ﷺ الذين التفوا حوله رغم كل ما نزل بهم.
إن هؤلاء يغيب عن بالهم أن الأمور بيد الله وأن الأيام دول وأن القوي لن يبقى قويًا إلى الأبد ولا الضعيف يظل ضعيفًا إلى الأبد، ولعلّ الله بل يقينًا أن الله سبحانه سيأتي بالفتح والنصر والفرج أو أمر من عنده كما كان فتح مكة يومها فعضّ أولئك أصابع الندم. وإنه الفرج القريب والفتح الآتي الذي سيأتي به الله وعند ذلك لن يصيب أولئك المسارعين فيهم المنبطحين بين أيديهم إلا الخيبة والحسرة والندامة. نعم والله سيندمون وإن غدًا لناظره قريب.
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون