الاحتـــلال إذ يُـــظهِرُ ضــعفه..
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
ابتداء..
إسرائيل هي نتاج الحركة الصهيونية التي اتخذت التاريخ معراجًا للوصول إلى أهدافها النهائية التي تماهت مع الصحوة القومية للشعوب الأوروبية مصحوبة بنفس استعماري يرنو للوصول إلى دولة تجمع الشتات اليهودي الأوروبي، الذي بات يشكل أزمة أوروبية عرفت بالمشكلة اليهودية. وكان الاتفاق على استيطان فلسطين تقاطعًا لعدة مصالح استعمارية مع الحركة الصهيونية التي رامت الوصول إلى دولة تكون من ناحية، جامعة للشتات اليهودي، ومن ناحية أخرى ذات رحم وصلة وتنفيذ خدمات للمستعمر الأوروبي الساعي لإحياء احتلاله للمشرق العربي، سواء للحيلولة دون عودته موحدًا، أو لاستغلال خيراته التي بدأت تُكتشف ابتداء من نفط البصرة والموصل.
لقد احتاجت الحركة الصهيونية إلى رواية وسردية تقنع بها يهود الدياسبورا بالاجتماع والتوحد للخلاص من الذل والهوان، والفكاك من الجيتو، فكانت فلسطين هي الهدف، ولذلك تكاد تكون إسرائيل الدولة الوحيدة في العالم التي قامت على أساس من المزاعم الدينية، بل وسمّت نفسها باسم نبي من الأنبياء، وكان من ضرورات إتمام مسيرتها هذه، مسيرة تثبيت وجودها أيديولوجيًا وتاريخيًا، اعتماد مدينة القدس عاصمة لتلكم الدولة الناشئة، كبيان لصحة روايتها المستمدة من التاريخ الذي تمَّ استخدامه لإضفاء الشرعية على المشروع الأيديولوجي للحركة الصهيونية، وسعت الحركة الصهيونية جاهدة لإقناع اليهود في العالم بِصدقية روايتها، وفي ذلك ينقل ايلان بابيه في كتابه “فكرة إسرائيل: تاريخ السلطة والمعرفة” عن شموئيل ألموج ما نصه: “كانت الصهيونية في حاجة إلى تاريخ من أجل أن تثبت لليهود أينما كانوا أنهم يشكلون كيانًا واحدًا وأنَّ هناك خطًا تاريخيًا مستمرًا منذ مملكتي إسرائيل ويهودا وحتى زمن اليهودية الحديث”.
مشهدان تنازعا إسرائيل منذ لحظة قيامها وإلى وقت قريب، العلمانية وكل تحولاتها من جهة، والدينية بكل تحولاتها. الأولى وصلت الى مرحلة الانهيار وأضحت بعد أن أقامت الدولة وحكمتها عدد سنين، على هامش الحياة السياسية وكانت ولا تزال تقف فكريًا وراء النزعة التوسعية والاستيطانية، ودهاقنتها هم من رفضوا منذ اللحظة الأولى لقيام الدولة ترسيم حدودها، ومعتبرين القدس درة التاج في المشروع الصهيوني، معتمدين الرواية التوراتية رغم علمانيتهم المفرطة، وقد دار الزمان دورته ليتسلم مكانهم التيار اليميني ومن ثم التيار الديني الصهيوني ممثلًا بالصهاينة “المتدينون الجدد” الذين ذاع صيتهم منذ بداية العقد الثاني من هذا القرن، وقاربوا سدة الحكم ليقف واحد منهم على رأس الهرم السياسي الإسرائيلي، وهذه المجموعة لا ترى إسرائيل بدون القدس والعكس صحيح، كما أنها تعتمد الرواية التوراتية والتفسيرات التلمودية للحدود “الإلهية” لـ “شعب الله المُختار” الذي على أساسه أقيمت دولة إسرائيل الجامعة لهذا الشعب “المختار” المُشتت في أصقاع الأرض.
هل فعلًا القدس الموحدة عاصمة إسرائيل؟
كانت القدس ولا تزال القاسم المشترك الجامع لتيار الصهيونية واليهودية، وكل منهم يتعاطى مع هذا القاسم المُشترك وفقًا لحساباته السياسية والأيديولوجية، ومنذ أن تعززت مكانة اليمين الإسرائيلي انتخابيًا مع بدايات عام 1977 والانقلاب السياسي التاريخي الذي قاده مناحيم بيغن بفضل الشرقيين والى هذه اللحظات، يعمل اليمين ومن معه من الشراكات السياسية على تعزيز مكانة القدس لتحقيق ما أقرته الكنيست عام 1980 من قانون أساس ينص على أن القدس العاصمة الموحدة بشطريها لإسرائيل.
ورصد متواضع وسريع يثبت أن هذا لم يحصل، والمدينة المقدسة بقيت عصية على التطويع، بل يومًا بعد يوم يتأكد أنها أراضٍ محتلة منذ عام 1967 وكل محاولات التهويد ومصادرة الأرض وهدم البنيان واقتحام اليهود من مختلف الطوائف الدينية المتشددة الى البلدة القديمة سعيًا لتغيير الهوية الإسلامية العربية المشرقية للمدينة المقدسة، باءت بالفشل، بل إن مليارات الدولارات التي بذلت منذ الاحتلال عام 1967 والى هذه اللحظات، تتهاوى مع أول عملية احتلالية مستفزة للمسلمين والمقدسيين في القدس. ومنذ مساعي الاحتلال عام 1996 فيما سمي أحداث النفق، والقدس تتصدر المشهد السياسي الحي للفلسطينيين كما الإسرائيليين، وباتت المدينة المقدسة وبحق معلمًا تأسيسيًا لا يمكن المرور عنه في بناء مداميك الهوية الفلسطينية والعربية.
كافة السياسات الاحتلالية اتجاه القدس وإن كانت مغلفة بأغطية من حرير المساواة في فرص العمل والحقوق والتعليم، فإنها فشلت فعلًا في تحقيق وحدة القدسين، بل إن الأمور تعمقت باتجاه المفارقة بين العرب واليهود في المدينة، بحيث صدق عليهم من قال “إنهم مختلفون ومتضادون ويعيشون تحت سقف واحد” وهذا السقف هو المدينة ذاتها، لذلك ثمة غربة تتعمق باستمرار بين السكان الأصليين والوافدين المحتلين. وتبين الدراسات التي صدرت في السنوات الأخيرة، حجم العمل “الاحتلالي” على تهويد المدينة وربط ساكنتها بعجلة الاقتصاد الإسرائيلي.
كل من يدخل المدينتين يعلم أنهما ليسا سواء، الأولى كتلة اسمنتية عملاقة تتمدد بفعل نهر الأموال التي تضخ اليها، والثانية يشهد عليها فلسطينيتها ولهجاتها وتاريخها الغائر في أعماق التاريخ، تراها عملاقة تشمخ بكبرياء لا لسبب الا لأنها من أثر القدر الإلهي والأثر النبوي وأثر الصالحين، فلا يستويان. هذا دون النظر الى نوعيه وماهية وكيفية تقديم الخدمات الأولية والتي ليس أقلها النظافة كمقارنة بين مدينتين- طبعًا كاتب هذه السطور ليس بغافل عن تاريخ ومعنى القدس بشقها الغربي وصلته بالنكبة-، ولذلك فإنَّ مدينة القدس بما هي عليه إلى هذه اللحظات تشكل بيانًا لضعف الاحتلال الذي يزداد عصبية كل عام وفاشية وعنصرية كما يزداد تهورًا وتبجحًا في ممارساته لهدم البيوت والاعتقالات وغض الطرف عن الجريمة وحماية أربابها، إنّما يُظهر ضعفه تمامًا كما يظهر غباءه السياسي في مدينة هي الأكثر حساسية في العالم.
مسيرة الأعلام بيانٌ لهذا الضعف
تعود مسيرة الأعلام أو ما تسمى برقصة الأعلام إلى الحاخام تسفي يهودا كوك وتلاميذ مدرسته “يشيفات هراف”، حيث شرع بها وتلاميذه عام 1968 بعد انتهاء الاحتفال بـ “تحرير المدينة” في مدرسته، حيث يقومون ليلًا بالمسيرة منطلقين من مدرسته عبر طريق يافا بالأغاني والرقص حتى يصلوا الى ساحة البراق. وفي عام 1974 دعا يهودا حزاني أحد تلاميذ مدرسة الحاخام تسفي باقي المدارس “اليشيفوت” للمشاركة بهذه المسيرة الراقصة. وهذه المسيرة بالمناسبة لا تتم في السنوات الأخيرة أو لنقُل في العقدين الأخيرين بشكل مجاني وعفوي، بل يتم تمويل هذه المسيرة من بلدية القدس ووزارة المعارف وشركة تطوير الحي اليهودي في البلدة القديمة وشركة حراسة الميراث اليهودي في حائط البراق، ومعنى ذلك أن ملايين يتم جمعها من أجل هذه المسيرة التي تمول من ألفها الى يائها: المشاركون، الحراسة، وكل ما يتعلق بها من أمور لوجستية. والقصد من وراء هذه الحقائق إظهار البُعد المادي الربحي الثاوي في مثل هذه المسيرة التي وإن قصدت في بداياتها التأسيسية مقصدًا روحانيًا أيديولوجيًا، إلا أنها انتهت إلى هذه اللحظات لتكون كسبًا ماديًا عند من يعمل عليها دون نفينا للأبعاد الأيديولوجية للشباب الطلائعي اليهودي المُستقدم من اليشيفوت في المناطق المحتلة في القدس والضفة الغربية.
جميعنا يعلم يقينًا أنّ هذه الآلاف المؤلفة ما كان لها أن تسير المسيرة التي مشتها لو لم تكن تحت حماية شرطية وامنية مشددة. وقد أثبتت مسيرة الأعلام أنّ القدس ليست موحدة وأن من يحتفي بتوحيدها هم مجموعات دينية مهووسة من الصهيونية الدينية والدينية الحريدية القومية، وواضحٌ أنه لن يجرؤ يهودي واحد من هؤلاء المضي لوحده رافعًا علم إسرائيل ويرقص في أزقة البلدة القديمة أو يمضي بمحاذاة الأسوار الخارجية منطلقًا من باب العمود باتجاه باب المغاربة، وهو يعني أنّ القدس لها أهلها وأن الاحتلال مهما تزيى بالدين والتدين والموروث التاريخي فهو لا يملك من أمره شيئًا، ومن المؤكد أنّ كل احتلال الى زوال مهما كان نوعه وفلسفته وخلفياته، وقد باتت الفرص تتقلص امام هذا الإحتلال الأيديولوجي مع تعزز مكانة الكهانية السياسية.
من نافلة القول الإشارة الى انّ مسار هذه المسيرة خضع لمحاكات سياسية كثيرة داخل حزب يمينا الذي يعاني من ضعف شديد ولا أبالغ اذا قلت إن مسار هذه المسيرة ارتبط بمصير حكومة بنيت وأعضاء حزبه المتمردين عليه، ولا أبعد النجعة اذا قلت إن المخابرات المصرية تحركت اصابعها في هذه المسيرة عبر حصولها على ضمانات من المقاومة بعدم اطلاق الصواريخ ومن ثم تدمير الحكومة الراهنة فحسابات الحقل غير حسابات البيدر (مقولة قالها من قبل الفلاح الفلسطيني مميزًا بين كمية وقيمة المحصول يوم يكون في الحقل، أي قبل حصاده أو قِطافه، وحين يكون في البيدر أي بعد حصاده أو قطافه إذ الحسبة والقيمة تختلفان رغم وجود مجهود في الحالتين”.