الهدم في القدس.. فصل جديد من النكبة والتهجير والقهر
تدمير 200 منزل و2780 إخطارًا بالهدم منذ مطلع 2022
وقفت أمام منزلها وهي ترتدي ثوب الصلاة، الشيء الوحيد الذي استطاعت الخروج به من المنزل لحظة قدوم قوات الاحتلال الإسرائيلي بلا سابق إنذار وهدمها منزلين متلاصقين لعائلتي “جودة” و”طينة” في بلدة بيت صفافا بالقدس المحتلة، تصدح حنجرتها بالقهر: “دفعنا دم قلبنا على الدار”، ورفعت يديها إلى السماء تشكو قلة حيلتها وهي تعيشُ نكبةً جديدةً: “حسبنا الله ونعم الوكيل”، دعوة أودعتها بين يدي الله راجية أن “تكسر ظهر الظالم”.
أما “سلفتها” التي أحضرت طفلتها من الروضة فوقفت تتأمل الهدم وهي مصدومة بعدما منعها جنود الاحتلال من الدخول في المنزل واعتدوا على أفراد العائلة الذين تشبثوا بمنزلهم.. مشاهد تسافر مع الفلسطينيين إلى أيام النكبة عام 1948، اختلف الوقت لكن بقيت آلة الهدم والتهجير واحدة لم تتغير، ماضية في اقتلاع الفلسطيني من أرضه.
لم تبقِ تلك السيدة قهرها حبيسًا في داخلها، بل صدحت به أيضًا، مؤكدة أن البيت مرخص وأن الاحتلال لم يمهلهم حتى الوقت الكافي لإفراغه، تتساءل بغضب وحرقة قلب ترافق صوتها بعدما أصبحت هي وأربعة عشر فردًا من العائلة في العراء: “رحت أجيب ابني من الروضة ورجعت بحكولي تدخليش الدار، وين بصير هدا؟”.
اغتيال الحلم
وفي سلوان يشن الاحتلال هجمة شرسة، ففي العاشر من مايو/ أيار الجاري، الساعة التاسعة صباحًا، أفاق فارس الرجبي وأولاده ونحو 30 فردًا من عائلته على مأساة وفصل جديد من النكبة والتهجير، بعدما اقتحمت شرطة الاحتلال برفقة وحدات “اليمام” الخاصة بالاغتيالات البيت بطريقة وحشية وأخرجوا جميع أفراد المنزل، ولم يعطوهم فرصة لإخراج أي شيء، وكأنها جاءت لاغتيال أحلام العائلة.
هدمت جرافات الاحتلال المنزل البالغة مساحته 200 متر مربع، ويضم محالَّ تجارية وخمس شقق سكنية أمام أعين ساكنيه الذين رفضوا هدمه ذاتيًّا.
منذ أسبوعين يعيش الرجبي في خيمة نصبها أمام حطام منزله، يلتحف السماء، رافضًا مغادرة المنطقة، متشبثًا ببيته وأرضه حتى لو عاش في خيمة “رغم قسوة الهدم، لم أذرف دمعة واحدة أمام الاحتلال، لكن بينك وبين نفسك تشعر بحجم الظلم، وأنك لم تستطِع الدفاع عن نفسك، وهذه ضريبة الرباط” يفرغ ما في قلبه مستحضرًا صورة جريمة الهدم. ويعتري صوته حزن ممزوج بالقهر وهو يضيف: “بيتك اللي بنيته عبر سنوات طويلة تراه يهدم أمامك، بسبب قانون (كمينتس) أصبحت صلاحيات بلدية الاحتلال فوق صلاحية محاكمه، فلا يوجد تمديدات”.
قبل جريمة الهدم كان الاحتلال قد قدم مغريات للرجبي وعائلته بإلغاء الهدم مقابلة السماح لهم بافتتاح مركز لقواته في عمارتهم، لكن العائلة أشهرت سيف الرفض، يعلق: “لم نقبل بذلك، فكيف نقبل وهم يهدمون بيوت الناس في سلوان، ثم عرضوا علينا اقتطاع 80% من أرضنا والسماح لنا بالبناء على 20% منه، أي يريد حشرنا في علبة صغيرة”.
رفضت العائلة الهدم الذاتي، إذ كان هذا الأمر للرجبي وعائلته أمرًا مستحيلًا، يردف: “لا يمكن أن أهدم حلمي بيدي، رغم أننا حاولنا منذ 20 عامًا الحصول على ترخيص عبر محاكمهم فدفعنا 700 ألف شيقل، وبعنا ذهب زوجاتنا، وفي كل مرة يعيدوننا إلى مربع الصفر لاستفزازنا ماليًّا ويقومون بشطب ملف وفتح آخر، وعندما شعروا أنه لم يعد هناك قوة لندفع قاموا بهدم المنزل”.
رغم صعوبة الحياة الجديدة في خيمة فإنها على الأقل بالنسبة له تثبت تجذرهم في أرضهم: “سأبقى في الخيمة أنا وبناتي الأربع، لأن الاحتلال يريد أن نخرج من القدس خلف الجدار العنصري”، معتبرًا ذلك نكبة وتطهيرًا وفق سياسة خبيثة. ويعيش في بلدة سلوان 59 ألف مقدسي وفي المقابل 2800 مستوطن زُرعوا بقوة الاحتلال في 78 بؤرة استيطانية، ويهدد خطر التهجير القسري نحو 7500 فرد يعيشون في 6 أحياء مستهدفة في البلدة.
تفريغ القدس
هذه الحملة الشرسة في الهدم ليست في سلوان وحدها، بل تشمل كل أحياء القدس، فقد هدم الاحتلال منذ بداية العام الجاري 200 منزل، وأصدر 2780 أمر هدم إداريًّا وقضائيًّا، وبلغ عدد المباني المهددة بالهدم 21 ألفًا و500 منزل، على حين دمر الاحتلال العام الماضي 472 منشأة ومنزلاً، بحسب الناشط المقدسي فخري أبو دياب.
ويقول أبو دياب، إن جرائم الهدم تهدف لتفريغ المدينة المحتلة من أصحابها الأصليين وتضييق الخناق عليهم وكسر شوكة ومعنويات أهل القدس التي اشتدت في الآونة الأخيرة بصمودهم أمام مخططات الاستيلاء على المسجد الأقصى، مشيرا إلى أن الاحتلال يشن عقابا جماعيا من خلال زيادة وتيرة الهدم.
وأضاف أن السبب الآخر لزيادة وتيرة معاقبة المقدسيين هو إشغال الأحياء المحيطة بالمسجد الأقصى بنفسها، خاصة أن تلك الأحياء هي التي تصد اعتداءات الاحتلال على الأقصى وهي التي أفشلت سياسة “البوابات الإلكترونية”.
وعن الهدم في بيت صفافا، أشار إلى أن تلك المنطقة يعيش فيها 20 ألف نسمة، وهي منطقة متداخلة، يقع جزء منها في حدود الأراضي المحتلة عام 1967، وجزء في الأراضي المحتلة عام 1948، وتحيط بها المستوطنات من جميع الجهات، والمستوطنون يطالبون بإغلاق مساجدها. وقال: إن المنطقة أصبحت تؤرق الاحتلال، لذا يحاول عبر جرائم الهدم تصفية الوجود العربي، بعدما وجد عودةً لم يتوقعها للشباب الفلسطيني وتمسكهم بأرضهم ورفض كل ما هو إسرائيلي.