29/5 رايات على أسوار عكا والقسطنطينية والقدس
الشيخ كمال خطيب
يوم بعد غد الأحد 29/5 هو اليوم الذي سيزدحم بالأحداث، منها من هي من الماضي والذكريات الجميلة ومنها من هي من الحاضر والواقع الصعب والمؤلم الذين نعيشه، ولكن دائمًا وأبدًا فإن التفاتنا إلى الوراء ليس من أجل أن نجتّر الماضي اجترارًا ونعيش على طيف ذكرياته الجميلة، وإنما من أجل أن يكون لنا حافزًا ومشجعًا على أن نتجاوز عثرات الحاضر ونداوي جراحته، ونمضي إلى المستقبل بأمل ويقين أنه سيكون أفضل وأجمل بإذن الله تعالى.
29/5/1291 عند أسوار عكا
كانت معركة حطين الخالدة عام 1187 وطرد الصليبيين وتحرير القدس والمسجد الأقصى صاعقة ووقعها شديد على الصليبيين، غير أنهم لم يتوقفوا على تسيير الحملات في محاولة لاستردادها، فكانت الحملة الصليبية الثالثة عام 1191 والتي فشلوا فيها باسترداد القدس إلا أنهم نجحوا باسترداد عكا وبعض مدن الساحل التي أصبحت نافذة مباشرة لهم على البحر مع أوروبا، وأصبحت عكا من أهم مراكزهم في الشرق فحصّنوها تحصينًا لم يُر له مثيل، وأصبحت عكا منطلق حملاتهم ومحاولاتهم لاستعادة القدس وإن كانت قد فشلت كلها.
أصبحت عيون كل القادة المسلمين على عكا وضرورة تحريرها رغم أسوارها وقلاعها وحصونها الشديدة. لم يفلح الحكام الأيوبيون بعد صلاح الدين في ذلك إلى أن جاءت دولة المماليك وبعد انتصارهم على التتار في معركه عين جالوت عام 1260 بقيادة قطز والظاهر بيبرس فكانت استعدادات وحملة السلطان المنصور قلاوون لفتح عكا عام 1290 أي بعد مائة عام من إعادة احتلال الصليبيين لها، لكن الموت عاجله فأكمل مسيرة فتح عكا ابنه أشرف خليل بن قلاوون.
لم يكن الوصول إلى عكا ومحاصرتها ليحصل إلا بعد معارك كثيرة خاضها السلطان خليل بن قلاوون حتى وصل إلى سهل عكا ومعه عشرات آلاف الجنود. نصب السلطان خليل حول عكا 90 منجنيقًا، واستمر الحصار 44 يومًا ليبدأ الموجة الأولى من الهجوم يوم 18/5/1291 استهله بالتكبير وأصوات قرع الطبول محمولة على 300 جمل. وكانت الهجمة الثانية الفاصلة يوم 24/5 1291 بتركيز قصف الأسوار والأبراج والقلاع المحيطة بعكا وقد تهاوت كلها باستثناء قلعة “تمبلر” وأبراجها الأربعة على الساحل الغربي لعكا، وفيها تحصّن فرسان المعبد والاستبارية وهم أشد فرسان الصليبيين قوة وتدريبًا وتعصبًا دينيًا.
بعد أربعة أيام وليلة 29/5/1291 سقطت قلعة “تمبلر” واستسلم فرسان البرج الأخير، فلم يبق إلا الإعلان الرسمي على فتح عكا ورفع رايات التوحيد على أسوارها وعودتها إلى الحاضنة الإسلامية ليسهل بعد ذلك استلام إمارة صور ثم صيدا لتعمّ الأفراح والاحتفالات مصر وباقي حواضر الشام بسماع أخبار فتح عكا، وقد قال في ذلك الشاعر:
قد أخذ المسلمون عكا وأشبعوا الكافرين صكًا
وساق سلطاننا إليهم خيلًا تدك الجبال دكًا
وأقسم الترك مذ سارت لا تتركوا للفرنج ملكا
وبتحرير عكا فقد انتهت فعلًا الحروب الصليبية وقد استمرت 200 عامًا والتي بدأت في عام 1096.
29/5/1453 عند أسوار القسطنطينية
إنه اليوم الذي تحقق فيه لمحمد الفاتح الشاب ابن الثالثة والعشرين أمنية أمه يوم كانت تجعله ينظر إلى أسوار القسطنطينية المحصّنة المنيعة عاصمة الدولة البيزنطية الارثوذكسية، ومنها كانت تعبر زحوف الحملات الصليبية لاحتلال الشرق الإسلامي واحتلال القدس الشريف قبل 350 سنة من ذلك اليوم وتلك الوقفة.
كانت أمه وكان مربيه وشيخه “شمس الدين أق” ومنذ كان فتى صغيرًا يوقفانه مقابل أسوار القسطنطينية ويذكّرانه بحديث رسول الله ﷺ: “لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش”، ثم تقول له لعلك يا بني أن تكون أنت ذلك الأمير الذي يقود جيش فتح القسطنطينية.
وجاء اليوم الذي أصبح فيه محمد الفاتح أميرًا وسلطانًا وخليفة، وإذا به يعدّ جيشًا قوامه 250 ألف جندي وأسطولًا يتشكل من 180 سفينة حربية، ويبني 18 طوبنجية “مدفعية ثقيلة” يحتاج الواحد منها لمائة ثور يجرّونه، وقد كلف لبنائها مهندسًا مجريًا. كان محمد الفاتح وهو يستعد لمعركة فتح القسطنطينية ودك أسوارها يقف أمام جنوده حاملًا سيفه قائلًا: “إن هذه السيوف التي نحملها ليست للزينة ولا للتباهي، ولكن لنقاتل بها في سبيل الله”. ودعا جنوده للصيام يوم الأحد وقراءة القرآن والدعاء والصلاة على رسول الله ﷺ، واجتمع بضباط جيشه يوم الاثنين الذي سبق يوم المعركة 29/5 وأمرهم باستمرار تذكير جنودهم بأخلاق الإسلام في المعركة وعدم المساس بغير المقاتلين ولا النساء ولا الأطفال.
وبدأت المعركة فجر يوم الثلاثاء بالتكبير، ودكّت أسوار القسطنطينية بقذائف المدفعية الثقيلة إلى أن سقطت القسطنطينية أمام زحوف جيوش التوحيد، وكان أول ما فعله السلطان محمد الفاتح أن نزل عن حصانه وسجد شكرًا لله وأخذ يعفّر رأسه بالتراب وهو يبكي فرحًا وشكرًا ورايات التوحيد على أسوار القسطنطينية وقد تحققت به نبوءة رسول الله ﷺ “فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش”، ولتصبح تلك المدينة منذ ذلك اليوم تعرف باسم إسلام بول أي مدينة الإسلام ولاحقًا عرفت باسم اسطنبول بعد أن كانت تعرف باسم القسطنطينية وبيزنطة.
ولأنه لا مجال لسرد التفاصيل إلا أنه لا بد أن يسجل ذلك الموقف بأحرف من نور يوم أمر السلطان محمد الفاتح بالبحث لمعرفة مصير الامبراطور قسطنطين امبراطور القسطنطينية ليجده الجنود مقتولًا، فأمر محمد الفاتح أن يسلّم جثمانه إلى رجال الكنيسة وقد سمح لأهل القسطنطينية من النصارى أن يشيّعوه في جنازة تليق بمقامه.
إنني أكتب هذه الكلمات من صفحات مجدنا وأن الدنيا كلها ما زالت تشهد ما فعلته حكومة شرطة إسرائيل قبل أسبوعين وقد اغتالت الراحلة شيرين أبو عاقلة، وكيف اعتدوا على جثمانها ونعشها وجنازتها وكاد التابوت أن يسقط أرضًا، ثم عاودوا نفس الفعلة بعدها بأيام بالاعتداء على جثمان الشاب وليد الشريف الذي توفي بعد إصابته واعتدائهم عليه في المسجد الأقصى خلال شهر رمضان، ثم اعتدوا على جنازة تشييعه.
فعلى أسوار القسطنطينية ليس أننا رفعنا رايات النصر وإنما نحن الذين علمنا الدنيا كيف تكون الأخلاق وكيف نتعامل حتى مع أعدائنا في ظروف يظن أن ليس للأخلاق فيها مكانًا ولا قيمة.
29/5/2022 عند أسوار القدس
يوم بعد غد الأحد 29/5/2022 وهو الذي تزامن كما تقدم مع ذكرى دك أسوار عكا وفتحها، ومع ذكرى دك أسوار القسطنطينية وفتحها فإنه اليوم الذي أعلنت فيه الجماعات الدينية اليهودية عن تسيير مسيرة ضخمة تحمل الأعلام الإسرائيلية تطوف بها حول أسوار القدس الشريف في اليوم الذي أسموه يوم توحيد القدس، المقصود توحيد شقها الغربي الذي احتل بعد نكبة 1948 مع شقها الشرقي الذي احتل بعد نكسة، 1967 وبذلك اليوم تم إعلان القدس عاصمة أبدية موحدة لإسرائيل. هذه المسيرة التي تقوم عليها جماعات “الصهيونية الدينية” الذي ينتمي إليهم نفتالي بينت رئيس حكومة إسرائيل ومن ضمنها جماعة “لهافا” التي دعت وحثت على المشاركة في تلك المسيرة وفيها كما نشرت الصور والدعوات أنهم سيقومون باقتحام المسجد الأقصى وهدم قبة الصخرة المشرفة، وقد نشروا صورة لجرافة ضخمة تقوم بعملية الهدم.
نفس هذه المسيرة وهذه الجماعات هم من قاموا بالدعوة لاقتحام المسجد الأقصى المبارك يوم 28 رمضان من العام الماضي 1442هـ /2021م الأمر الذي قاد لرفض شعبنا هذا الاقتحام، وكانت الدعوة حينها للرباط في المسجد الأقصى المبارك وإفشال الاقتحام، سوى أن الشرطة قامت بالاعتداء على المرابطين وانتهاك حرمة المسجد ثم ما تبع ذلك من تصعيد وتطور في الأحداث قاد إلى ما تسمى بهبة الكرامة في الداخل الفلسطيني بل ودخول غزة على خط الأحداث وبداية حملة عسكرية بين غزة وإسرائيل عرفت باسم “سيف القدس” في التعريف الفلسطيني لها و”حامي الأسوار” بالتعريف الإسرائيلي لها.
إن اللافت في مسيرة رفع الأعلام الاستفزازية حول أسوار القدس الشريف يوم بعد غد أنها ستجري بمباركة وموافقة وحماية حكومة نفتالي بينت عبر قرار اتخذه وزير الأمن الداخلي بإجراء المسيرة ضمن المسار وخط السير الذي كانت تتخذه سابقًا، والذي يتمثّل بالطواف حول أسوار القدس مرورًا بباب العامود والحي الإسلامي وصولًا إلى حائط البراق.
لم يعد خافيًا على عاقل وهذا ما تؤكده وسائل الإعلام العبرية والكتّاب والمحللين العسكريين أن هذه الخطوة من حكومة نفتالي بينت بعكس ما قامت به حكومة نتنياهو العام الماضي بتقييد وتغيير مسار المسيرة، فإن هذا السماح والإذن، بل والحماية لهذه المسيرة قد يعيد الاحتقان بل والانفجار الأمني تمامًا مثل ما كان قبل عام وبالتالي الوصول إلى مواجهة عسكرية قد تكون بدايتها مع غزة لكنها قد تتطور إلى أحداث داخلية وإلى حرب إقليمية.
اللافت والمحزن أن حكومة نفتالي بينت مدعومة من شريك عربي مسلم وفلسطيني هو منصور عباس وحزبه حزب القائمة العربية الموحدة، حيث لم يخش “بينت” ولا “عومر بارليف” من انهيار الائتلاف الحكومي بسبب هذا القرار، ويبدو أنهم مطمئنون أن منصور عباس سيظل على موقفه من إعطاء الحكومة الفرصة تلو الفرصة بزعم أنها ستمده وتزوده بمزيد من الميزانيات والأموال.
فكيف لعاقل أن يستوعب أن نفتالي بينت قد رجع إلى أصله وأيديولوجيته الدينية الاستيطانية وهو من كان يشغل رئيس مجلس الاستيطان في الضفة الغربية، وكيف أن عومر بارليف كذلك قد رجع إلى أصله وإلى الحليب الذي رضعه من أيديولوجية حزب العمل الصهيوني الذي ينتمي إليه وقرّرا السماح لهذه المسيرة بتحدي واستفزاز كل الفلسطينيين والعرب والمسلمين، بينما منصور عباس لا يفكر ولو للحظة بالعودة إلى أصله وإلى عقيدته وإلى تاريخه، وأن يرجع إلى ثوابته الدينية والوطنية والانتصار للمسجد الأقصى المبارك عبر الخروج من هذا الائتلاف الحكومي الصهيوني اليميني.
نعم إن تاريخ 29/5 الذي شهد دك أسوار عكا ودك أسوار القسطنطينية في أيام عزنا ومجدنا، ها هو يشهد محاولات طمس معالم وتاريخ أسوار القدس الشريف في مرحلة من التاريخ تعيش فيها أمتنا حالة ضعف ووهن.
لكن ولأن التاريخ علّمنا وعلّم غيرنا أن القدس وقد مرّ عليها ثمانية عشر احتلالًا قد رحلوا كلهم وبقيت القدس وأسوارها، فإنها القدس وأسوارها التي ستصمد أمام الاحتلال التاسع عشر وأمام مسيرات الحقد والكراهية والعنصرية من جماعات المستوطنين، وعلى أسوارها وصخرتها ستتحطم كل دعوات الكراهية والحقد.
وإن شعبنا الذي يتشرف بأنه صاحب هذه الأرض المباركة فإنه لا يفرط بهذا الشرف، ولن يتنازل عنه، وسيظل الحارس الأمين والوفيّ للقدس وأسوارها والمسجد الأقصى المبارك، وسيلبي نداء القدس واستغاثتها ولسان حالها تقول وشعبنا، بل وكل واحد فينا يقول لها:
قد عفّر الوغد وجهي بالدم القاني ومزق العلج أثوابي وأدراني
فصحت علّ صلاح الدين يسمعني أو علّ حيدرة الفرسان يلقاني
فلم تجبني من القعقاع نخوته ولم أجد في جموع القوم شيباني
أين السيوف التي في كف معتصم صالت على البغي من فرس وروماني
ورحت أبحث عن شدوٍ أهمّ به فراعني في الحمى أصوات غربان
حتى بدا فارس يزهو بلامته وراية الحق قد حفّت بفرسان
فقلت من أنت: قال الله غايتنا والمصطفى قائد والزحف رباني
والكل يهتف للقدس التي سلبت القدس يا أخت أهواها وتهواني
وإنا على العهد عاشت في ضمائرنا القدس يا أخوتي روحي وريحاني
قولوا لمن ظنّ أنا لن نعود لها قد خاب ظنك وسواسًا لشيطان
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا..
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون