ونجح الرجل في الامتحان
ليلى غليون
قرر عبد الله بن وهب- العالم المصري- أن يصوم يوما كلما اغتاب أحدًا وبقي على وفائه بهذا الالتزام إلى أن أرهقه الصيام مع بقاء العلة كما هي، فقرر أن يستعمل دواءً أجدى وأنفع لعله يتغلب على علة الغيبة ويفطم نفسه عن شهوتها الغالبة، فكان قراره أن يتصدق على مسكين كلما اغتاب أحدًا ووضع نفسه أمام الاختبار الصعب، فالنفس مجبولة على حب المال (ويحبون المال حبًا جمًا) وهي كذلك تحب الغيبة والتعرض للآخرين فعليها أن تحل هذه المعادلة الصعبة، لذا لم تتردد نفسه في اختيار الكف عن الغيبة. ونجح الرجل في الامتحان.
فشهوة الكلام غلابة في النفس الإنسانية، وقد قيل إن الإنسان قد يستغني عن حظه في الطعام ولا يستغني عن شهوته إلى الكلام، وما أكثر الكلام الذي يوقع قائله في موارد الهلاك لما يحمل من الظلم والاجحاف بحقوق الآخرين وما يحمله من أسلحة فتاكة تطعن بالأعراض وتهتك الستر وتقدح في الكرامة وتشوه السمعة، حيث يخوض المغتاب ضد خصمه أو أي فرد من الناس معركة في الظلام وفي الخفاء ليطعن من الخلف مثبتًا عجزه عن المواجهة فهو لا ينطلق إلا من وراء الظهور حتى لا ينكشف أمره، فنراه وقد تقوى على أخيه بلسان حاد هو أمضى من السيف فيطلق قذائف وصواريخ كلامية يرميه بها من بعيد ويمعن في ظلمه له وافتراءاته في الوقت الذي يكون فيه غائبًا ولا يستطيع الدفاع عن نفسه ليرد هذه الافتراءات وهذا الظلم، وقد غاب عن ذهن هذا المغتاب أن في الغيبة ضعفًا وبطولة لكنها بطولة عاجز يقف خلف الستار، بل إن في الغيبة ظلمًا عظيمًا وأن الظلم ظلمات يوم القيامة وأنه يتفوه بالكلمة لا يلقي لها بالًا تهوي به سبعين خريفًا في نار جهنم كما أخبر بذلك رسولنا صلى الله عليه وسلم، فكيف إن قصد ذلك عن سبق إصرار وترصد؟! بل غاب عن ذهنه أنه ربما كان حصاد ظلمه لأخيه وأكل لحمه ميتًا، دعوات يرسلها عليه فتصيبه في مقتل، فدعوة المظلوم لا ترد وليس بينها وبين الله حجاب، وما أبلغ ما قاله الشاعر في هذا الشأن:
وإني أقول لشخص قد تقوّى
على ضعفي ولم يخش رقيبه
خبأت له سهامًا في الليالي
وأرجو أن تكون له مصيبة
فمجالسنا تكاد لا تخلو من قيل وقال والاجتراء على الخوض في أعراض الناس وخصوصياتهم
بل تعتبر الغيبة من أشهى فاكهة تقدم في المجالس العامة والخاصة، فشهوة الكلام يكاد لا يسلم منها أحد إلا من رحم ربي، والتلذذ في أطباق النميمة والفضول سمة بارزة عند الكثيرين رجالًا ونساءً، فلا يقتصر الأمر على النساء فقط، بل هناك من الرجال أيضا من يشاركهم الشيطان مجالسهم حتى إذا انفضوا من تلك المجالس خرجوا منها مثقلين بأعباء الذنوب والأوزار نتيجة حصائد ألسنتهم والتي ستكون عليهم حجة يوم القيامة.
إن المجالس أمانة، وإن الكلمة أمانة، وإن ألسنتنا أمانة كما كل جوارحنا أمانة، ويا ليتنا نحرص على كمال مجالسنا ونظافتها من لغو الكلام كما نحرص على جمال ملابسنا وهيئتنا، ويا ليتنا نحرص على الطيب في كلامنا كما نحرص على الطيب في مطعمنا ومشربنا.
قيل لعمر رضي الله عنه: ما السرور؟ قال: سيري في سبيل الله، ووضع جبهتي على الأرض لله، ومجالستي رجالًا ينتقون أطايب الحديث كما ينتقون أطايب الثمر، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت”. وفي ضوء هذا الحديث الشريف فقد قالوا إن في الصمت سبعة آلاف خير وقد اجتمع ذلك في سبع كلمات في كل منها ألف:
1- فهو عبادة من غير عناء.
2- وزينة من غير حلي.
3- وهيبة من غير سلطان.
4- وحصن من غير حائط.
5- وفيه الاستغناء عن الاعتذار.
6- ثم هو راحة.
7- وهو ستر للعيوب.
فيا لهذه المغانم ما أعظمها، بل يا لخسارة المغتاب الذي أضاع بكلمة طائشة كل هذا الخير الوفير والعطاء الجزيل الذي يتجسد في فضيلة الصمت، إلا عن الخير والحق، وقيل لأحدهم لم تلزم السكوت فأجاب: ما ندمت على السكوت مرة ولقد ندمت على الكلام مرارا.
فلنحفظ ألسنتنا من السقوط في الزلل وفي فحش القول، خاصة في هذا الزمن الرديء الذي أصبحت فيه شبكات التواصل الاجتماعي منصات وقواعد لإطلاق صواريخ التشهير والقذف والطعن واللعن والافتراء وكل القائمة السوداء من فحش القول، وما أكثر أبطال هذه المنصات ممن يتقلدون أوسمة سوداء لبطولة مزيفة خلف الستار، لا يتقنون إلا فن السب والشتم واللعن وتراهم كالخراف والنعاج حين المواجهة. وبدل الانشغال بهتك أستار الآخرين وتتبع عيوبهم وأخبارهم فلينشغل كل واحد منا بإصلاح نفسه وتنقيتها من العيوب والأدران وما أكثرها، وبدل بعثرة الوقت وإضاعته في مجالس ومنصات وشبكات نسودها بالغيبة وطعن الناس من الخلف، فلنستثمر هذا الوقت وهذه المنصات بما يرضي ربنا عز وجل وبما فيه نفعنا في الدنيا والآخرة، فالغيبة صورة قبيحة من صور الظلم، وطبق من لحم الميتة ولا أحسبه إنسانًا ذاك الذي يستمرئ طعم لحم الميتة.