مجلة فورين بوليسي: لحظة الوئام في الشرق الأوسط لن تدوم
قالت مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية، إن لحظات الود والوئام في الشرق الأوسط، بين الدول التي توترت علاقاتها لسنوات ماضية، لن تدوم.
وأوضحت المجلة في تقرير لستيفن كوك، أن المنطقة تشهد تقاربات لافتة وغير مسبوقة، بين دول كانت تنتهج العداء ضد بعضها في السنوات الماضية.
ففي الأسبوع الماضي زار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان المملكة العربية السعودية حيث التقى الملك سلمان وولي العهد محمد بن سلمان.
وكانت وسائل الإعلام الإيرانية قد أكدت في أواخر إبريل/ نيسان أن مسؤولين أمنيين كباراً من المملكة العربية السعودية وإيران التقوا في جولة خامسة من محادثات التطبيع التي نظمت برعاية الحكومتين العراقية والعمانية.
وفي مارس/ آذار زار رئيس إسرائيل إسحاق هيرتزوغ تركيا – وكانت تلك أول زيارة يقوم بها مسؤول إسرائيلي كبير إلى البلد منذ 14 عاماً. في نفس الشهر، حل الرئيس السوري بشار الأسد ضيفاً على إكسبو 2020 في دبي حيث التقى بالزعماء الإماراتيين.
كما زار أردوغان الإمارات العربية المتحدة في فبراير/ شباط بعد أن كان ولي عهد أبوظبي قد سافر إلى تركيا في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي. وخلال الشتاء تبادل الإماراتيون والإيرانيون وفوداً تجارية واستثمارية.
كل هذا النشاط الدبلوماسي دفع زوايا معينة في واشنطن نحو التفاؤل بأن حالة من “تخفيف التصعيد” وكذلك “إعادة الاصطفاف” تسود المنطقة. وهي نقطة بيانات بالنسبة لأنصار إعادة تموضع الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، حيث يسري المنطق على النحو الآتي: إذا كانت العناصر الفاعلة في المنطقة تتصرف بشكل مسؤول وتسوي خلافاتها، فإن بإمكان الولايات المتحدة أن تتخفف من عبء تواجدها المباشر والعودة ثانية فقط فيما لو نشبت أزمة ما.
يبدو ذلك رائعاً في ظاهره، ولكنه لا يقنعني. ولا أقصد الحجج المؤيدة لإعادة التموضع وتوازن الأوفشور، فهذه فعلاً منطقية (ولئن كان في الأغلب فقط في المقالات الصحفية – وذلك أن الولايات المتحدة عندما حاولت ذلك في سبعينيات القرن الماضي، لم ينجح الأمر، ونجم عن ذلك التزام أمريكي طويل المدى بالحفاظ على أمن الخليج). أما ما لا يقنعني فهو الرأي القائل بأن هذا النشاط الأخير من الدبلوماسية يدشن عهداً جديداً من السلام والحب والتفاهم في الشرق الأوسط. بل إن الانفتاحات المتعددة التي تجرى حالياً في المنطقة ما هي ببساطة سوى طريقة أخرى يتمكن من خلالها القادة من خوض نفس التنافس والنزاعات المستمرة منذ العقد الماضي.
فحتى بالنسبة للبعض ممن تساورهم شكوك عميقة، مثلي شخصياً، فإنها لأخبار سارة أن يجد المرء القوى الإقليمية يتحدث بعضها إلى بعض. وحسب سيناريو الحكمة المعهودة فإن المال هو الذي يقف من وراء المناخ الإقليمي الجديد حيث يتم الرهان على الاستثمارات والتعاون الاقتصادي بدلاً من حروب الوكالة وجيوش المرتزقة.
ولما كانت أنقرة هي التي تقف من وراء جل هذا الحراك الإقليمي، فإن الأمر يبدو منطقياً. فقد نجم عن إدارة أردوغان السيئة للاقتصاد إصابة الليرة التركية بأزمة مستمرة منذ أكثر من عام، ومع نسبة تضخم تصل إلى ما يقرب من الـ70 بالمائة، تعهد الزعيم التركي بأن تخرج تنمية الاقتصاد من رحم المصيبة التي صنعتها يداه.
وهذا ما جعله يتخلى عن السردية المعادية التي تتحدث عن كون الإماراتيين – من بين مجموعة من الصفات القبيحة – قراصنة وجهلة وفاشلين. وقد أمر أردوغان بنقل محاكمة (كانت تجرى غيابياً) للعناصر المتهمين بارتكاب جريمة قتل جمال خاشقجي إلى المملكة العربية السعودية، فقضى بذلك على أي فرصة لمعاقبتهم على ما ارتكبوه.
تلك هي النسخة الجيوسياسية من الذهاب إلى هناك تسولاً رجاء الحصول على بعض الاستثمارات من صناديق الثروة السيادية الضخمة لدول الخليج، وإبرام الصفقات التجارية، وتبادل العملات وربما بيع الطائرات المسيرة.
ولكن من باب الإنصاف، فإن تقارب الحكومة التركية مع إسرائيل لا يتعلق بالمال – ولا حتى بإسرائيل – كما قد يعتقد كثير من الناس.. بل يرى المسؤولون في أنقرة أن التفاهم مع الحكومة الإسرائيلية قد يخفف عنهم وطأة الضغط الذي تمارسه عليهم واشنطن.
وهناك سبب وجيه من وراء ذلك بالطبع؛ فثمة منطق ثلاثي الأطراف تقوم عليه علاقات مصر بالولايات المتحدة حيث تلعب إسرائيل دوراً. وبناء على ذلك، فيبدو أن الأتراك يعتقدون بأن المنظمات اليهودية والكيانات المناصرة لإسرائيل في الولايات المتحدة سوف تدافع عنهم فيما لو رحب أردوغان بنظيره الإسرائيلي وتبادل معه المكالمات الهاتفية.
لو وضعنا جانباً النظرة الساذجة حول نفوذ هذه المجموعات، فإنه لا يوجد ما يثبت أن المجموعات التي تمثل مصالح يهود أمريكا أو تدعم إسرائيل ترغب بالفعل في مساعدة أردوغان، سواء من أجل التحرر من العقوبات الأمريكية التي فرضت على أنقرة بسبب شرائها لمنظومة الصواريخ الدفاعية الروسية من طراز إس 400 أو من أجل وقف التحقيق الذي تجريه وزارة العدل الأمريكية في مزاعم بأن مصرف خلق بانك الذي تديره الحكومة التركية يمارس نشاطات غايتها التهرب من العقوبات المفروضة على البلد.
وفي ما يتعلق بتخفيف التصعيد مع إيران، فإنه يقال إن الإماراتيين أعربوا عن الاهتمام بالبحث عن فرص استثمارية هناك، وخاصة في مشروع الطاقة المتجددة. لم يبلغ السعوديون والإيرانيون ذلك القدر من التفاهم بعد، وأفضل ما يمكن أن يقال عن تلك اللقاءات أنها مستمرة في الانعقاد.
ومع ذلك، وبالرغم من الابتسامات والحديث عن التعاون، فإنه يصعب ألا يصدق المرء أن شيئاً آخر يجري في الخفاء. فبعد عقد من التنابز بالإرهاب واتهام كل منهم للآخر بأنه مصدر انعدام الاستقرار في المنطقة والقيام بتسليح خصوم بعضهم البعض، فإن الإعلانات الجارية الآن عن بدء عهد جديد من العلاقات الأخوية لها ما وراءها.
وبعد أن ثبت لهم انعدام القدرة لديهم على فرض إرادتهم على أعداهم بالقوة، ها هم زعماء المنطقة الآن يحاولون سبيلاً مختلفاً. خذ الإماراتيين على سبيل المثال. هؤلاء لم يقعوا فجأة في حب أردوغان. كما أن ملامح وجه ولي العهد السعودي المتعجرفة والمتجهمة كما بدت في إحدى الصور الملتقطة له أثناء الزيارة الأخيرة للرئيس التركي تفيد بأن السعوديين، مثلهم في ذلك مثل الإماراتيين، يدركون جيداً الحالة البائسة التي يوجد فيها أردوغان بسبب الإخفاق الاقتصادي وتراجع شعبيته في استطلاعات الرأي.
وهذا يوفر فرصة سانحة أمام هذه الدول الخليجية لكسب بعض النفوذ الذي تؤثر به على أنقرة من خلال ما تنعم به من قوة مالية – وهو الأمر الذي لم تكن هذه الدول قادرة على تطويره، على سبيل المثال، من خلال دعمها لخليفة حفتر في ليبيا، الذي سعى للانقلاب على حليف تركيا المتمثل في الحكومة الليبية المعترف بها دولياً في طرابلس.
من جانبهم، يتوخى الإسرائيليون الحذر في التعامل مع الأتراك، فهم لا يثقون بأردوغان، ولكن يبدو أنهم انخرطوا في اللعبة، وخاصة إذا ما تمكنوا من الحصول على شيء ما بفضل حاجة الزعيم التركي إلى تحسين وضعه داخل واشنطن. فعلى سبيل المثال، قد يعتبر مكسباً لرئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت أن يحمل أردوغان على تقليص نشاط إرهابيي حماس الذين ينشطون من داخل تركيا.
في نفس الوقت، لن يكون الإسرائيليون على استعداد للتخلي عن ارتباطاتهم الاقتصادية والأمنية القومية مع اليونان ومع جمهورية قبرص – الخصمين اللدودين لتركيا – في سبيل تحسين علاقاتهما مع أنقرة. وهذا شبيه بموقف مصر من مساعي تركيا الحثيثة ولكن الفاشلة حتى الآن في كسب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى جانبها.
تأمّل في ذلك للحظة. ترغب الحكومة التركية في إعادة ترتيب العلاقات مع كل من إسرائيل ومصر. فلم هذا التغير في المزاج؟ بكلمتين اثنتين: اليونان وقبرص. فقد متنت كل من إسرائيل ومصر واليونان وقبرص علاقاتها ببعضها البعض كرد فعل على تموضع تركيا العدواني بدون لزوم في شرقي المتوسط. ونظراً لخسارتها في كل الحديث الجاري حول خفض التصعيد وإعادة التموضع، فإنه يبدو واضحاً أن تركيا تحاول انتزاع بلدين يمكن أن يكونا صديقين لها بعيداً عن التحالف مع أثينا ونيكوسيا. وبالفعل، فإنه في خضم انشغال الجميع بتداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا، لم يلحظ الكثيرون تزايد الاختراقات التركية للمجال الجوي اليوناني فوق بحر إيجة. يبدو أن تركيا تريد أن تخفض التصعيد في مكان لتزيده في أماكن أخرى.
ثم هناك الحوار الإيراني مع الإمارات العربية المتحدة ومع المملكة العربية السعودية. وعندما يجلس الإماراتيون والسعوديون للحديث مع الإيرانيين، فإن أوجه ضعفهم وانكشافهم أمام طهران – من حيث صواريخها والمجموعات التي تعمل بالوكالة عنها – باتت جلية جداً. ولذلك فإن لديهم من الأسباب الوجيهة ما يدفعهم إلى خفض التوترات معها، وخاصة أنهم يعتقدون بأنه لم يعد بإمكانهم الاعتماد على الولايات المتحدة كمصدر للأمن والاستقرار في المنطقة.
ولكن دعونا نكون واضحين: هذا التخفيض في التصعيد إنما الغاية منه أن تكسب المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة الوقت للتفكير في أفضل السبل لمواجهة التهديد الإيراني – سواء من خلال الاقتراب أكثر من إسرائيل، أو العمل مع الحكومتين الصينية والروسية، أو تطوير التكنولوجيا النووية. فمشاطرة إيران المنطقة ليس شيئاً مرغوباً من قبل جيرانها في الشطر الغربي من الخليج – ربما باستثناء قطر.
لطالما انتهجت الولايات المتحدة خلال العقدين الماضيين سياسات قائمة على فرضيات خاطئة بشأن الشرق الأوسط. ولذلك فإن الخلوص إلى أي رأي لا يرى أن اللحظة الحالية مما يبدو تقارباً لا تزيد على كونها تنافساً عبر طريق آخر سوف يشكل فرضية خاطئة أخرى ينبني عليها قرار إعادة التموضع. لن تدوم لحظة الوئام هذه طويلاً.