عفو الأسد وإذلال السوريين: أهالي المعتقلين في الشوارع بانتظار أي خبر
“لم يخرج يوسف إلى الآن. أخشى أن يكون قد مات في السجن”. بهذه العبارة يلخص أبو يوسف حالة القلق التي تعتريه بينما ينتظر منذ يومين في وسط العاصمة السورية دمشق مع آلاف الآباء والأمهات، لمعرفة ما إذا كان أبناؤهم سيخرجون من المعتقلات، وفق “عفو” من المجرم بشار الأسد أصدره يوم السبت الماضي، ويبدو أنه لم يستفد منه إلا عدد محدود من بين أكثر من 132 ألف معتقل على خلفية المشاركة في الثورة.
ويقول أبو يوسف، الذي اعتقل ابنه منذ 8 سنوات بسبب مشاركته في تظاهرات سلمية مطالبة بالتغيير السياسي، في تصريح صحفي إن نجله “كان في السنة الأخيرة من دراسته الجامعية. دخل المعتقل وعمره 22 عامًا وهو الآن تجاوز الثلاثين إذا كان ما زال حيًا. أتمنى أن أراه حرًا أو على الأقل أعرف عنه شيئًا”.
ويحمل أبو يوسف وغيره الآلاف من السوريين صور أبنائهم المعتقلين ويجوبون الشوارع في دمشق، لعل أحد المفرج عنهم يعرف أحدًا منهم أو يكون قد رآه في سجن ما من عشرات السجون التي زج بها النظام السوري عددًا غير معروف من السوريين على مدى سنوات، وقتل الآلاف منهم تحت التعذيب.
تعذيب السوريين داخل المعتقلات وخارجها
“لم أحتمل رؤية آباء وأمهات ينتظرون تحت جسر (الرئيس) وسط دمشق. إنهم يتقنون تعذيب الناس داخل المعتقلات وخارجها”، يقول كاتب مقيم في العاصمة السورية في تصريحات صحفية.
ويضيف دون ذكر اسمه “مشاهد المفرج عنهم بعد سنوات قضوها في الأقبية المظلمة وقد فقدوا ذاكراتهم، أو عقولهم، موجعة. هذه المشاهد لا تدع مجالًا لشك في أن سورية كلها تحولت إلى سجن كبير بلا أبواب”.
وبدأ النظام السوري الإفراج عن معتقلين على دفعات بعد صدور “عفو” من بشار الأسد السبت الماضي عما أسماها بـ “الجرائم الإرهابية”، في محاولة لوسم المعتقلين بصفة الإرهاب. وشمل هذا “العفو” حتى أمس الأربعاء، عددًا محدودًا من المعتقلين ربما لا يتجاوز الـ 200 معتقل، في ظل أنباء عن أنّ الأيام المقبلة ستشهد خروج دفعات أخرى.
وقالت وزارة العدل التابعة للنظام، أمس، إنه “جرى الإفراج عن عشرات المعتقلين المشمولين بالعفو خلال اليومين الماضيين”، مشيرة إلى أنه “سيتم استكمال إجراءات إطلاق سراح الموقوفين تباعًا”.
صدمة من حال المفرج عنهم من سجون النظام السوري
ولطالما كان ملف المعتقلين والمخفيين قسريًا والمغيبين، هو الأكثر إيلامًا بين ملفات القضية السورية المتعددة، إذ رفض النظام مقاربة هذا الملف على طاولات التفاوض منذ عام 2014، بل كان يفرج بين وقت وآخر عن قوائم الذين قُتلوا من هؤلاء تحت التعذيب أو بسبب عدم وجود رعاية صحية في السجون.
وصُدم الشارع السوري من مشاهد المعتقلين المفرج عنهم، إذ فقد البعض منهم ذاكرته أو عقله، أو خرج بوضع صحي مريع، وهو ما يعكس الأوضاع داخل معتقلات النظام المتعددة.
ويصف المحامي والحقوقي، وكبير المفاوضين السابق في المعارضة السورية، محمد صبرا، في حديث صحفي ما يحدث الآن في شوارع دمشق من إخلاء سبيل بعض المعتقلين في سجون نظام بشار الأسد بأنه “استكمال للجريمة الأصلية التي ارتكبتها مافيا بشار باختطافهم من دون أي مسوغ قانوني”.
ويضيف “ما يحدث دليل إثبات تقدمه مافيا بشار بنفسها على هول الجرائم التي ارتكبتها… صور المخطوفين المفرج عنهم وصور الأهالي وهم ينتظرون أي خبر عن أبنائهم، تثبت أننا في مواجهة مافيا وليس جهاز دولة قضائيا بأي معيار من المعايير”.
ويشير صبرا إلى أن “الدول عندما تصدر قوانين عفو، تصدر معها لوائح بأسماء من يشملهم العفو، وتحدد بجانب كل اسم نوع الجريمة المتهم بها وقانون العفو والمادة القانونية المسوغة لشمول جرمه بقانون العفو”.
ويقول صبرا إن “كل هذا غائب عن المشهد في سورية، لأن هناك تشكيلا عصابيا وليس نظام حكم”. ويتابع أن “أغلب المخطوفين الذين أفرج عنهم، خرجوا بحالة صحية ونفسية مروعة ومؤلمة، بينما يبقى عشرات الآلاف رهن الاختطاف أو المصير المجهول”.
ويعتقد صبرا أن النظام “أراد تقديم مادة إعلامية لإشغال الرأي العام عن مجزرة التضامن، ولذلك قام بإخلاء سبيل بضع عشرات من المعتقلين، وهذا يثبت ليس عدم جديته فحسب، بل أيضًا مستوى انتهاكه لكل القوانين الوطنية والدولية”.
وكانت صحيفة “ذا غارديان” البريطانية كشفت أخيرًا تفاصيل مجزرة بحق عشرات المدنيين (فلسطينيين وسوريين) ارتكبتها الأجهزة الأمنية في حي التضامن جنوب دمشق عام 2013، بطريقة وحشية حيث قتلت هؤلاء ثم أحرق الفاعلون جثث القتلى.
لا إحصائيات بعدد المفرج عنهم جراء “عفو” الأسد
ولا توجد حتى اللحظة إحصائيات حول عدد الذين خرجوا من السجون وأبرزها سجن صيدنايا سيئ الذكر بريف دمشق والذي شهد أكثر أعمال التعذيب وحشية، ما أفضى إلى مقتل عدد كبير من المعتقلين.
وتؤكد “الهيئة السورية لفك الأسرى والمعتقلين”، وهي منظمة إنسانية مدنية تطوعية، أن “هناك تهويلًا إعلاميًا بعدد المعتقلين المفرج عنهم”.
من جهته، يقول أحد مؤسسي “رابطة المعتقلين والمفقودين في سجن صيدنايا”، دياب سرية، في حديث صحفي إنه “ليس هناك إحصائية رسمية لعدد المفرج عنهم حتى أمس الأربعاء”، غير أنه يشير إلى أن النظام “لم يفرج سوى عن نحو 150 معتقلًا من صيدنايا ومن سجون في السويداء أو حلب وحماة”، مضيفًا أن العدد قابل للزيادة.
ويوضح سرية أن “نصف المفرج عنهم من سجن صيدنايا أحكامهم منتهية منذ أشهر، وعلى الرغم من ذلك كانت الأجهزة الأمنية تحتفظ بهم”، مشيرًا إلى أن “القوائم التي تُنشر على وسائل التواصل كلها غير صحيحة”.
ويصف سرية (وهو معتقل سابق في صيدنايا) مشاهد الأهالي في شوارع العاصمة السورية دمشق وفي بلدة صيدنايا شمال شرقي دمشق بـ “المؤلمة”، مضيفًا أن “الأمهات والآباء ينتظرون أي سيارة عسكرية لعلها تحمل معتقلين مفرج عنهم”.
وبحسب بيانات “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، يعتبر النظام السوري مسؤولًا عن قرابة 98 في المائة من إجمالي حصيلة حالات الوفيات بسبب التعذيب في سورية منذ مارس/آذار 2011 وإلى الآن.
وتؤكد الشبكة مقتل ما لا يقل عن 14664 شخصًا بسبب التعذيب على يد أطراف النزاع الرئيسة الفاعلة في سورية منذ مارس 2011، وحتى مارس من العام الحالي، من بينهم 181 طفلًا و93 سيدة (أثنى بالغة).
وفي السياق، يؤكد مدير الشبكة، فضل عبد الغني، في حديث صحفي، أن المفرج عنهم حتى أمس الأربعاء هم “نحو 100 معتقل فقط”، مشيرًا إلى أن “ما ينشر على صفحات وسائل التواصل غير دقيق”.
ويوضح عبد الغني أن “عددًا من المفرج عنهم كانوا معتقلين على خلفية الحراك الثوري والسياسي، وهناك عدد من المفرج عنهم معتقل قبل عيد الفطر الفائت بأيام”. ويعتقد عبد الغني أن الإفراج عن بعض المعتقلين “جاء لصرف الاهتمام الإعلامي عن مجزرة حي التضامن التي ارتكبتها الأجهزة الأمنية جنوب دمشق عام 2013”. ويوضح أنه في سجون النظام “هناك نحو 132 ألف معتقل”.
من جهته، يقول “المرصد السوري لحقوق الإنسان”، في تقرير له أمس الأربعاء، أن عدد المعتقلين السوريين الذين أُفرج عنهم بموجب “العفو” وصل إلى 252 معتقلا “وهو رقم ضئيل جدًا”، مشيرًا إلى أنه “من المفترض أن يُفرج عن الآلاف، بل عشرات الآلاف من المعتقلين بموجب هذا العفو، بيد أن ذلك لم يحدث على الرغم من مرور أيام على صدوره”.
ويؤكد المرصد أنه أحصى اعتقال 969854 ألف شخص من قبل الأجهزة الأمنية بينهم 155002 امرأة منذ بداية الثورة السورية في مارس 2011، من قبل أجهزة النظام الأمنية، مشيرًا إلى أن عدد المعتقلين المتبقين في سجون النظام بلغ 152713 بينهم 41312 امرأة.
ووفق منظمات حقوقية، قتل النظام السوري عشرات آلاف المعتقلين منذ بدء الثورة السورية، إذ كشفت صور سرّبها في عام 2014 مصوّر سابق لدى الأجهزة الأمنية التابعة للنظام أُطلق عليه لاحقًا اسم “قيصر” الأهوال التي عاشها المعتقلون.
وأكدت هذه الصور التي هزت العالم مقتل نحو 11 ألف معتقل تحت التعذيب أو بتصفيات ميدانية، بينهم أطفال ونساء ومسنون، تعرف إليهم ذووهم من خلال هذه الصور.
وكانت منظمة “العفو الدولية” قد وصفت سجن صيدنايا الشهير في ريف دمشق الشمالي الشرقي بـ “المسلخ البشري”. وفي تقرير لها صدر في بداية عام 2017 ذكرت المنظمة أن إعدامات جماعية شنقًا نفذها النظام بحق 13 ألف معتقل، أغلبهم من المدنيين المعارضين، بين عامي 2011 و2015.
ووصفت المنظمة سجن صيدنايا العسكري بأنه “المكان الذي تذبح فيه الدولة السورية شعبها بهدوء”. وكانت منظمة العفو قد وثقت، في منتصف عام 2016، مقتل 17723 معتقلًا، أثناء احتجازهم في سجون النظام السوري، ما بين مارس/ آذار 2011 وديسمبر/ كانون الأول 2015، أي بمعدل 300 معتقل كل شهر.