صُنّاع الحروب
صُنّاع الحروب
د. حسن صنع الله
بين فلسطين وسوريا والعراق وأفغانستان من جهة وأوكرانيا من جهة أخرى يتجلى النفاق الدولي والعنصرية الغربية بأبشع صورها، فالأوكراني محارب من أجل الحرية والآخرون إرهابيون، والجندي الأوكراني مقاتل الحرية هو نفسه الذي قاتل إلى جانب الروسي الذي اجتاح الشيشان، وهو نفسه الذي قاتل إلى جانب الأمريكي حينما اجتاح العراق. وأوكرانيا دعمت ولا زالت تدعم وتبرر الحروب التي تشنها المؤسسة الإسرائيلية على غزة. ما ذكرته آنفاً ليس من باب الشماتة أو التقليل من حجم الكارثة، وإنما للوقوف على حجم الانحدار الأخلاقي لدى الغرب، فما يحصل في أوكرانيا هو كارثة إنسانية واجتياح شامل غير مبرر لبلد يتم تدميره وتشريد أهله، حيث وصل عدد اللاجئين حتى الآن الى 2.6 مليون لاجئ، هذا ناهيك عن سياسة الأرض المحروقة التي يتبعها الروس.
ولكن العنصرية الغربية تجلت بأبشع صورها، فاللاجئ الأوروبي مرحبٌ به وغيره يتم إغراقه في البحر أو طرده أو التنكيل به على الحدود، وغزو البلاد العربية والإسلامية مبرر، أمّا الحروب في أوروبا فغير مسموح بها، المدافع عن وطنه وأرضه في الغرب مقاتل حرية أما المسلم فهو إرهابي، استجلاب محاربين للدفاع عن الوطن في أوروبا مسموح به حتى لو حملوا أفكاراً نازية، أما في البلاد العربية والإسلامية مجموعات إرهابية، وضرب المباني السكنية واستهداف المدنيين الابرياء ليس جريمة حرب إلا في أوروبا.
إن عداوة الغرب للمسلمين والعرب نابعة من سببين، الأول طمعاً في الثروات والمقدرات والثاني يهدف للحد من تقدم وانتشار الإسلام، لذلك تمت شيطنة العربي والمسلم من أجل تسهيل عمليه استهدافه ومحاربته. فالعربي والمسلم وثني، شيطان ودجال ومتوحش وعدواني، وقد ساهم في رسم هذه الصورة النمطية رجال الكنيسة من أجل محاصرة الإسلام ومنع انتشاره، لا بل استئصاله. هذا المجهود وَلَّدَ الحروب الصليبية ما بين 1096- 1291م، وهذه الصورة النمطية لا زالت موجودة حتى يومنا هذا في الوعي الجمعي المسيحي الغربي. وهي السبب وراء ارتكاب أبشع المجازر في الماضي والحاضر بحق العرب والمسلمين، فعلى سبيل المثال لا الحصر، في عام 1098 أثناء الحملة الصليبية الأولى قتل الصليبيون في مذبحة معرة النعمان 20 ألف من سكان المدينة. هذا ناهيك عن مجزرة القدس التي قتل فيها الصليبيون ما يزيد على 70 ألفاً. وقد ذكرت كتب التاريخ أن الصليبيين ارتكبوا مجازر وصلت حد أكل لحوم البشر.
لقد مارس المعسكر الغربي والشرقي ضد الأمة العربية والإسلامية شتى أشكال الإرهاب الفكري والاقتصادي والعسكري، وبرر هؤلاء الحرب على الأقطار العربية والإسلامية بذريعة الحرب على الإرهاب. والمشكلة تكمن في أن الغرب اعتاد على أن السلام والأمان والرخاء في أوطانهم تحققه معادلة إشعال الحروب في بلدان العرب والمسلمين. ولقد سعت الدول الكبرى في افتعال حروب محلية في الأقطار العربية والإسلامية وفي دول “العالم الثالث”، خدمةً لمصالحها الاستراتيجية ونزعاتها الإمبراطورية. وفي بعض الأحيان استخدمت هذه الدول مرتزقة لإبعاد شبهة التدخل عنها فكانت “الكونترا” الأميركية، و”فاغنر” الروسية، والمليشيات المذهبية الإيرانية، وغيرها الكثير. والأمثلة على تأجيج مثل هذه الصراعات واضحة في دول مثل الصومال وأفغانستان وسوريا وليبيا والعراق واليمن أو دول الساحل والصحراء في إفريقيا.
لقد توالت المجازر بحق المسلمين من قبل الامريكان والروس وغيرهم، فقد استطاع الروس أن يحتلوا أجزاء كبيرة من بلاد المسلمين، مثل القرم ومغول الشمال وتركستان والقوقاز. ارتكب الروس أبشع المجازر تنكيلاً بالمسلمين، فأعدموا من اعتنق غير الديانة المسيحية الأرثوذكسية، فاضطر المسلمون إلى كتمان إسلامهم، وتوريثه لأبنائهم سراً، وبسبب عمليات التنصير القهرية لم يتبق من أصل خمس ملايين مسلم في القرم، إلا ما يقارب نصف المليون مسلم فقط!
كان من أبرز سياسات السوفييت 1922- 1991م تشريد وتهجير المسلمين من أراضيهم. أما من تبقى منهم فكان يُوزع على مختلف المدن السوفيتية، فيكونون أقلية أينما عاشوا، هذا ناهيك عن هدم المساجد وتحويل بعضها إلى كنائس وخمارات وإسطبلات خيول، ومصادرة الأوقاف، والمنع من أداء فريضة الحج وجمع الزكاة. وعمد السوفييت إلى تهجير شعوب مسلمة بأكملها “مثل القرم والشيشان” إلى مناطق يستحيل العيش فيها، مثل سيبيريا، وقد أُبيد في عهد ستالين أكثر من ١١ مليون مسلم بهذا السبب. أما في أفغانستان في عام ١٩٨٠، أُبيد ما يقارب المليون مسلم على يد الروس. أما المجازر الروسية في سوريا ودعمها لنظام بشار الأسد فما زالت حاضرة للعيان، فالروس اليوم هم المحتل الرسمي لسوريا فقد قتلوا وشردوا مع نظام الأسد ملايين السوريين حتى الآن.
ولا ننسى المذابح التي ارتكبها الصرب قبل أكثر من ربع قرن بحق المسلمين في البوسنة والهرسك، تلك المذابح التي نُفذت بدعم روسي للصرب والكروات، وبتواطؤ من قبل الدول الغربية من أجل تنفيذ إبادة جماعية وتطهير عرقي بحق المسلمين.
أما أمريكا فتملك سجلاً مثقلاً بالجرائم الجسيمة بحق الشعب العراقي وبحق موارده الحضارية والاقتصادية، حيث سقط خلال فترة احتلالها للعراق ما يزيد على المليون شهيد، هذا ناهيك عن أنها تسببت في خسارة العراق لعشرات التريليونات من الدولارات. فأمريكا احتلت العراق بذرائع واهية، بحجة وجود أسلحة الدمار الشامل، والتي أثبتت التقارير الدولية والأمم المتحدة عدم وجودها، ولكن الهدف الأمريكي كان دخول العراق واحتلاله وتدميره.
أثبتت الولايات المتحدة عبر التاريخ أنها لا تهتم بحقوق الإنسان كما تدعي، وقد استخدمت أسلحة اليورانيوم المنضب في عام 1991 عندما انسحبت القوات العراقية من الكويت، واستخدمت أسلحة محرمة دولياً عندما احتلت العراق عام 2003. وبدأت عدوانها على أفغانستان عام 2001 متذرعة بهجمات الـحادي عشر من أيلول، وقد استمر الإرهاب الأمريكي لأفغانستان قرابة 13 عام، قتلت خلالها آلاف المدنيين الأفغان.
أما المؤسسة الإسرائيلية شريكة الغرب في صناعة الحروب، فتمول بشكل مباشر حكومة ميانمار التي تقوم بتهجير المسلمين وقتلهم بطرق بشعة في عمليات تطهير عرقي، كما أن فضائح إسرائيل بتمويل وتدريب الأكراد للتمرد على العراق أو تركيا أو إيران لم تعد سرا، وقد بدأت في ستينيات القرن الماضي، كما أنها تدرب وتُسلّح المنظمات المتمردة في جنوب السودان والتي أدت في النهاية إلى انفصال جنوب السودان عن شماله، وقد سعت المؤسسة الاسرائيلية لترسيخ وجودها في أفريقيا خلال السنوات العشر الأخيرة عبر الدبلوماسية تارة، وتجارة السلاح والتدريب والشراكة الاقتصادية والأمنية تارة أخرى.