في حوار معه حول الغزو الروسي لأوكرانيا: د. مهند مصطفى: الأزمة الحالية تكشف أن مفهوم الأمن القومي التقليدي لم يتلاش وأن فكرة القرية العالمية كان وهّما
روسيا ليست قوة دولية، وغزت أوكرانيا لأن الغرب خرق اتفاقا ضمنيّا معها ولأنها ورثت درعا نوويا
النظام الدولي لا يزال في حالة تبلور
منذ سقوط جدار برلين ولم يصل لنقطة تشكله النهائي
كشفت الأزمة أن الآخر عند الاوروبي هو المسلم بالأساس، وإذا كان مسلما أفريقيّا، فإقصائه سيكون مضاعفا
حاوره: طه اغبارية
في أعقاب الأزمة الاوكرانية والغزو الروسي لأوكرانيا، وكشف العطب الاخلاقي وازدواجية المعايير الاخلاقية عند الغرب، كان لصحيفة “المدينة” هذا اللقاء مع د. مهند مصطفى، مدير عام مركز مدى الكرمل في حيفا، ورئيس قسم التاريخ في المعهد الأكاديمي العربي في الكلية الأكاديمية بيت-بيرل، ومحاضر مُشارك في الكلية، ومحاضر غير مُشارك في برنامج ماجستير “سياسات شرق أوسطية” في مدرسة العلوم السياسية في جامعة حيفا.
المدينة: كيف يمكن قراءة الغزو الروسي لأوكرانيا؟
مهند: هنالك طبقات متعددة لقراءة الأزمة الحالية، هنالك القراءة التي تتعلق بمفهوم الأمن القومي والدولة القومية، وتتمثل في الاعتقاد أن مفهوم الأمن القومي التقليدي قد تلاشى في القرن الـ 21 وبعد الحرب الباردة لم يكن صحيحا. حيث تمّ التعامل مع مفهوم الأمن القومي بمفاهيم تُعظم الاعتبارات التكنولوجية، حرب السايبر، التهديد النووي، والحصار الاقتصادي. تعيدنا هذه الأزمة إلى حقيقة أن المفهوم التقليدي للأمن القومي، أي منظومة الأمن خلال الحرب الباردة وحتى قبلها لا تزال قائمة، وقد تشعر الدولة بخطر لمجرد وجود تحالفات عسكرية ضدها، أو تحالفات عسكرية بجانبها. لذلك فمفهوم تلاشي الدولة القومية نحو القرية العالمية كان وهمّا كل الوقت، فالشعور القومي في أوروبا وفي مناطق أخرى في العالم لا يزال قويا، لا بل تعزز مع تغلغل العولمة على عكس ما كان متوقعا، وإسرائيل هي أكبر مثال على ذلك. وبقي منه حقيقة واحدة أن العقوبات الاقتصادية أصبحت سلاحا فاعلا فيها، وما يتعدى ذلك فالدولة القومية حيّة والشعور القومي أو الاثني لا يزال حيّا. روسيا تتصرف كدولة قومية من النوع القديم، دولة ترتكز سرديتها ليس على عظمة الاتحاد السوفييتي كما يعتقد البعض، بل على عظمة روسيا التاريخية قبل الاتحاد السوفييتي، لذلك استغرب ممن لا يزال يدعم روسيا باسم الشيوعية، والاتحاد السوفييتي السابق، وهي في مكان آخر في تفكيرها وسرديتها، وحتى منظومتها الاقتصادية الليبرالية الرأسمالية من النوع السيء الذي يدوس على الطبقات الفقيرة، ولكنه بؤس الفكر السياسي. فضلا عن كونها دولة تغزو دولة أخرى. لذلك روسيا اليوم لا تمثل الحنين للاتحاد السوفييتي الشيوعي، بل الحنين لتاريخ قومي يتمّ انتاجه ما قبل الاتحاد السوفييتي مع منظومة اقتصادية ليبرالية رأسمالية.
المدينة: وهل تعتبر هذه الحرب فاتحة لنظام دولي جديد؟
مهند: هذه هي الطبقة الثانية من التحليل، فإذا خرجنا من إطار الدولة القومية إلى إطار النظام الدولي، فهذه الحرب لا تؤكد وجود نظام دولي جديد أو فاتحة لنظام دولي جديد، بل تقول لنا، وهذه قناعتي كل الوقت، إن العالم لا يزال في مرحلة بلورة نظام دولي جديد في أعقاب نهاية الحرب الباردة وسقوط جدار برلين عام 1989 وانهيار الاتحاد السوفييتي، ولم يصل إلى نقطة نهاية التبلور. هنالك من نظّر لفكرة نظام أحادي القطبي، وهي مقولة ساذجة لم تستمر إلا بضعة سنوات في التسعينات، صحيح أنّ الولايات المتحدة هي مهيمنة في النظام الدولي، لكن النظام الدولي ليس نظام أحادي القطب. وذلك لسبب بسيط، أن مصادر القوة الدولية تنوعت، فالولايات المتحدة مهيمنة في الشرق الأوسط، ولكنها ليست كذلك في افريقيا على سبيل المثال. الغزو الروسي لأوكرانيا هو حدث متطرف حتى في مقاييس الحرب الباردة، فهي حرب في مركز النظام الدولي، أي أوروبا، وهو ما لم يحدث خلال الحرب الباردة التي اعتمدت على إشعال الحروب والنزاع في أطراف مركز النظام الدولي والحفاظ على استقرار المركز، لذلك فاندلاع الحرب لا يشير إلى تشكل نظام دولي جديد بل يؤكد عدم تبلور نظام دولي جديد منذ الحرب الباردة، فحالة الانسيابية في النظام الدولي سريعة وكبيرة خلال العقود الثلاثة الأخيرة بشكل لم نشهده في التاريخ الانساني.
المدينة: كيف يمكن أن تنتهي هذه الأزمة؟
مهند: من الصعب التنبؤ بذلك، فهنالك ديناميكية وانسيابية في الأحداث من الصعب التعامل معها وتنبؤ وجهتها، بيد أنه إذا استمرت الأحداث في منوالها الحالي، نكون أمام خيارين، الأول التوصل إلى تسوية سياسية بين الطرفين، وهي تسوية تعلن فيها أوكرانيا عن استسلامها ولو لم تصرح بذلك، وتشمل شرعنة استقلال المناطق المنفصلة عن أوكرانيا، وضم مناطق أخرى، وعدم الانضمام لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، وهي شروط استسلام عمليا ولو تمت ضمن تسوية بين الأطراف. أمّا الخيار الثاني فهو احتلال أوكرانيا والاعلان عن حكومة جديدة موالية لروسيا. في تصوري تفضل روسيا الخيار الأول والحملة العسكرية بالنهاية هي لتحقيق هذه الأهداف السياسية، وإذا لم تحققها فإن روسيا ستكون مُجبرة على احتلال أوكرانيا، فتراجعها الآن بدون تحقيق هذه الأهداف ستكون انتكاسة لبوتين واذلالا له ولمكانة روسيا، التي يحاول إعادة إنتاجها كقوة دولية وهي ليست كذلك.
المدينة: وهل روسيا لا تعتبر قوة دولية؟
مهند: هنالك صفات لقوة دولية، وهي الهيمنة السياسية والاقتصادية والعسكرية، روسيا بعد الحرب الباردة وحتى في فترة بوتن، قبلت الهيمنة الأمريكية في العالم، بشرط عدم الاقتراب منها في بعض الأمور، توسيع حلف الناتو باتجاهها، تهديد نفوذها وحضورها في مجال الطاقة، وعدم الاقتراب من مناطق نفوذها مثل سوريا، ما عدا ذلك تركت روسيا الهيمنة لأمريكا في كل المحاور، وهذا ليس من صفات القوة الدولية، علاوة على ذلك، فنصيب روسيا من الاقتصاد الدولي لا يتعدى 2% في حين أن نصيب امريكا من الاقتصاد الدولي يصل إلى حوالي 25%، لذلك يمكن لأمريكا فرض عقوبات على روسيا والعكس غير صحيح، وأقصد عقوبات مؤلمة تضرب عصب الاقتصاد، وهذا ليس من صفات القوة الدولية، المنظومة العسكرية الروسية تعتمد على الدرع النووي بالأساس، ما عدا ذلك فهي لا تتفوق عسكريا على الكثير من الدول في العالم، وهذا ليس من صفات القوة الدولية، حجم الانفاق العسكري الأمريكي هو اكبر من حجم الانفاق العسكري للدول الخمس التي تليها في القائمة مجتمعة. أمريكا هي دولة مهيمنة، ولكن النظام الدولي ليس أحادي القطبي وروسيا ليست قوة دولية.
المدينة: دعنا نتطرق قليلا للأبعاد الاخلاقية في الأزمة، كيف تقرأ التعامل الأوروبي مع الأزمة الأوكرانية من هذه الناحية؟
مهند: ما كشفته هذه الأزمة كان مذهلا، ولكنه لم يكن مفاجئا لمن درس اليمين الأوروبي مثلا، هنالك تيارات سياسية في اوروبا، لا سيّما اليمين الاوروبي الشعبوي التي شدّدت على مفهوم الدولة القومية ورفض الغرباء كما تسميهم سواء كانوا لاجئين أو مواطنين، وتؤكد هذه الأزمة ان هذا الموقف كان موجها في الحقيقة وبالأساس لمجموعة واحدة في العالم، للمسلمين. رحّب اليمين الأوروبي باللاجئين الاوكرانيين لأنهم مسيحيين وبيض. هذه هي الحقيقة، إن تعظيم مفاهيم الدولة القومية ونقاء الشعب كان كل الوقت موجها للمسلمين بالأساس وبعدها الافارقة، وإذا كان المسلم أفريقيا فرفضه سيكون مضاعفا. ولا يخجل اليمين الأوروبي من التصريح بذلك خلال الأزمة. إن بياض الوجه وشقار الشعر والانتماء الديني للمسيحية هو معياره لاستقبال اللاجئين، هذه ذروة السقوط الاخلاقي، ولا يخجل من أن يقول بعد ذلك أن الأوكرانيين “متحضرون” مثله، هذه الأفكار ميّزت المستعمرين الهولنديين في جنوب افريقيا، وهي أسوا من ذلك إذا أخذنا بعين الاعتبار السياق السياسي والتاريخي لمثل هذه الأقوال.
المدينة: هذا موقف اليمين الأوروبي الشعبوي، ماذا بالنسبة لموقف التيارات المركزية؟
مهند: في هذا الصدد أيضا، نرى عطبا أخلاقيا من نوع آخر، لم يظهر في هذه الأزمة فقط، ولكنها كانت مثالا صارخا لأنها حدثت في أوروبا، فتعامل الدول الغربية مع روسيا التي تعتبر من الشرق وليس من الغرب، يكشف أن هذه الدول قادرة على عقاب دول محتلة، ولو فرضت مثل هذه العقوبات على دول محتلة أخرى في العالم لانتهى احتلالها منذ فترة طويلة. ولكن الدول الغربية لا ترى العالم إلا من خلال منظور المركزية الأوروبية، ولذلك فهي لا تختلف عن اليمين الأوروبي. فاليمين الأوروبي يرى العالم من خلال منظار العرق ولون البشرة والدين، في حين أن التيارات المركزية السائدة في أوروبا والولايات المتحدة ترى العالم من خلال منظار المركزية الأوروبية- الأمريكية، فما هو داخل أوروبا والولايات المتحدة يصبح أمرا هاما ومُلّحا وطارئا، وما عداها فليس بهام ولا مُلّح ولا طارئ، إلا إذا هدّد مصالح المركزية الأوروبية- الأمريكية، لذلك عندما تتدخل المركزية الأوروبية خارج أوروبا لا تقوم ذلك من دوافع أخلاقية، وإنما من دوافع الحفاظ على المركزية الأوروبية. لذلك لم تفرض المركزية الأوروبية أيّة عقوبات على إسرائيل بسبب احتلالها، ومنع الشعب الفلسطيني من حقه في تقرير المصير، ولم تفرض عقوبات على روسيا بسبب الجرائم الروسية في سوريا وهي أفظع مما ترتكبه روسيا في أوكرانيا، وذلك لان سوريا خارج المركزية الأوروبية.
المدينة: ولكن كما تعلم لا يوجد أخلاق في العمل السياسي والدولي، فلماذا نعاتب أوروبا والولايات المتحدة؟
مهند: اتفق معك أن ما يحرّك الدول بالدرجة الأولى هو مصالحها القومية، انظر كيف تتصرف إسرائيل في هذا الأمر، سنوات وهي تعظ العالم برفض توقيع اتفاق نووي مع إيران من دوافع اخلاقية، وفي مقدمتها عدم السكوت عن كارثة محتملة لليهود بسبب المشروع النووي الإيراني، كما سكتوا عن الكارثة اليهودية في الحرب العالمية الثانية، والان تقف مثلما وقف العالم خلال الحرب العالمية الثانية مع اختلاف الحدث، ولكني اتحدث من الناحية المبدئية. نعم ما يحرك العالم المصالح القومية، ولكن تكمن المشكلة أن هذه المركزية الأوروبية الأمريكية اخترقت بلادنا في الماضي بخطاب أخلاقي استشراقي بأنها جاءت لتحديث العرب والمسلمين، واحتلت أمريكا العراق ودمّرته بخطاب أخلاقي أكثر تفاهة وهو نشر الديمقراطية في المنطقة العربية. وتدعم إسرائيل بدوافع أخلاقية، نحن نعلم أن كلها كانت مصالح، ولكن المعضلة تكمن في أن هذا الخطاب الاخلاقي يصيغ وعيّ الأوروبي تجاه المسلمين والشرق عموما، ويتنج طبقات من الفكر والوعي تؤدي به إلى استسهال احتلال بلادهم واذلالهم، دون أن يكون لديه أصلا أي رادع أخلاقي. مثل ذلك المواطن الأوروبي البسيط في بولندا الذي يريد استقبال البيض المسيحيين فقط لأنهم مثله “متحضرون”. لاحظ التناقض البشع في هذه الجملة. لذلك فالآخر في أوروبا اليوم هو المسلم في الدرجة الأولى، ثم الشرق في الدرجة الثانية.