الغلاء يطحن المصريين: وجبة الإفطار حلم صعب المنال
“بلدنا ما فيها واحد ينام من غير عشاء” هكذا كان المصريون يتفاخرون بأوضاعهم المعيشية رغم الأزمات التي يواجهونها.
لكن تبدلت الآن أحوالهم، حتى أصبحت وجبة الإفطار نفسها مشكلة كبرى للأغلبية الساحقة من الأفراد، الذين يشتركون في تناول الفول والطعمية (الفلافل) والخبز الأسود والمخللات، والجبن وإذا ابتسم الحال، يزيد معها قليل من الجبن والحليب والعسل.
وأصبح الحصول على قسط وافر من تلك الوجبة، يحتاج إلى ميزانية شهرية باهظة التكاليف، مع موجات الغلاء المتجهة إلى أعلى دائماً، ومنذ فقد الجنيه عام 2016، نحو 60% من قيمته، ترتفع القيمة بشكل متواصل.
واستيقظ المصريون، أول من أمس، على زيادة سعر رغيف الخبز غير المدعم، بنسبة 25% تأثرًا بالحرب الروسية الأوكرانية، وهو ما يزيد من تكلفة وجبة الإفطار تحديدا.
وتعد مصر أكبر مستورد للقمح في العالم، وبلغت وارداتها من القمح الروسي نحو 8.96 ملايين طن، من أصل 13.3 مليون طن استوردتها بين يوليو/تموز 2020 ويونيو/حزيران 2021.
وتحصل مصر على نحو 80% من احتياجاتها من القمح من سوقين رئيسيين؛ هما طرفا الأزمة الحالية (روسيا وأوكرانيا).
عربات الفول
يتناول المصريون وجبة الإفطار عادة خارج المنزل، على عربات الفول الشعبية المنتشرة في الشوارع بالقرب من مقار الوظائف العامة، والمصانع والجامعات والمدارس، لا اختلاف بين مدينة وأرياف.
وتعتمد الفئة الأكثر دخلاً، على شراء ما تحتاجه من محلات تبيع نفس المكونات، مع قليل من المقبلات والسلطات، إذ يتناول الشخص عادة بضعة أرغفة، في بلد يوفر رغيف الخبز نحو 45% من البروتين الذي يستهلكه الفرد سنوياً، ويمنحه ثلث السعرات الحرارية، وفقاً لدراسة أجرتها منظمة الأغذية والزراعة “فاو” سنة 2015.
ويحتوي الرغيف، إما على الفول أو بعض حبات الفلافل، ولسنوات قليلة مضت كان الفرد، يدفع ما بين 10 جنيهات و20 جنيهاً في الوجبة (الدولار = نحو 15.7 جنيهاً)، ولا فرق بين تكلفة الوجبة في البيت أو خارجها إلّا بمضاعفة الفاتورة، وفقا لتعداد الأسرة، أصابت موجات الغلاء الوجبة الشعبية في مقتل، بعد أن فرضت الحكومة عام 2018، على عربات الفول والفلافل، المنتشرة في الشوارع إتاوة سنوية تبلغ 5 آلاف جنيه، ولاحقتهم بضرائب، وفقا لقيمة المكان الذي تعمل في نطاقه.
في ضربة واحدة تضاعف سعر الوجبة، ولحقتها عدة ضربات أخرى العام الماضي، مع موجة التضخم التي أصابت السلع الزراعية عالمياً.
ولجأ البائعون إلى زيادة سعر “سندوتش” الفول والفلافل، إلى الضعف، من جنيهين في المتوسط إلى 5 جنيهات، خصوصاً بعد ملاحقة الحكومة للباعة، الذين يستخدمون الخبز المدعوم في صناعة الوجبات السريعة والشعبية، وأجبرتهم على إنتاج الخبز، من الدقيق المباع بالسعر العالمي.
قفزة في سعر الوجبة
عندما رفعت الحكومة أسعار الوقود والكهرباء والمياه والاتصالات، وفرضت رسوماً باهظة على جميع الخدمات التي تقدمها، بداية من رسوم التعليم ومواقف السيارات، وتراخيص السير والقيادة وانتهاء بقيمة استخراج جوازات السفر، زادت تكلفة الخبز، ومكونات وجبة الإفطار الشعبية، وتلقائياً رفعت المطاعم سعر الوجبة، إلى نحو 35 جنيهاً في المتوسط، بينما امتصت عربات الشوارع، الموجة، بتخفيض وزن الرغيف ومكوناته إلى النصف تقريباً، من دون زيادة الأسعار، حتى نهاية الشهر الماضي.
بحسبة بسيطة، نجد تكاليف وجبة الإفطار، التي لا تزيد عن 4 “سندوتشات” فول وطعمية، تكاد تسد الرمق، تصل إلى عشرين جنيهاً للفرد يومياً، بما يعني حاجة الأسرة المكونة من زوجين وثلاثة أبناء إلى مائة جنيه يومياً، وبمتوسط شهري، يصل إلى 3000 جنيه، وهو رقم يستحيل تدبيره بين الأغلبية الكاسحة من المصريين حالياً.
60 % من المصريين فقراء
تؤكد تقارير البنك الدولي الصادرة في مايو/أيار 2019، أنّ 60% من سكان مصر، إما فقراء أو عرضة للفقر، إذ أصبح دخل الفرد من هذه النسبة لا يزيد عن 1.9 دولار أي نحو 30 جنيهاً يومياً.
ويرتفع عدد الفقراء في صعيد مصر بنسبة تصل إلى 66%، ويعترف الجهاز المركزي للإحصاء والتعبئة الحكومي أن قرار تخفيض قيمة الجنيه المصري ـ الذي خسر 60% من قيمته ـ زاد من معدل الفقر في البلاد ما بين عام 2015 إلى 2018، بنسبة 4.7%، حيث كان 27.8% من المواطنين تحت خط الفقر عام 2015ـ 2016، فأصبحوا يمثلون 32.5% عام 2017ـ 2018.
وحسب مراقبين، تقلل التقارير الرسمية من نسب الفقراء، وتعدادهم، وتُرجع الفقرَ إلى زيادة الإنجاب، إذ تعتمد مستويات للدخل، أقل من المستوى الذي يحدده البنك الدولي، طبقاً لدراسات التقييم التي يجريها في 164 دولة سنوياً، فوفقاً لمعدل الدخل والإنفاق الذي يحدده الجهاز المركزي للإحصاء والتعبئة، يقع المواطن تحت خط الفقر المدقع، عندما يقل دخله عن 491 جنيهاً شهرياً، ويرتفع إلى معدل خطر الفقر إذا حصل على 736 جنيهاً شهرياً.
سوء التغذية
أصبحت وجبة الإفطار، وفقا لإحصاءات البنك الدولي، أو التي تصدرها الحكومة رسمياً، رغم بساطة مكوناتها، حلماً صعب المنال، للأغلبية الساحقة عند المصريين، خصوصاً قاطني محافظات الصعيد، حيث تعيش آلاف القرى في فقر مدقع، بمحافظة أسيوط، التي تصل نسبة الفقراء قيها إلى 66.9% وسوهاج 59.6% والأقصر 55.3% والمنيا 54%.
وتكشف دراسة علمية، أجراها أطباء بالمركز القومي للبحوث، عن ظهور أمراض خطيرة لدى الأطفال بالمناطق الفقيرة، ممن يعانون من سوء التغذية، تؤثر على نمو ذكائهم وأبصارهم، لعدم تناولهم اللحوم والأسماك إلّا مرات معدودة سنوياً.
وترجع دراسة أجرتها منظمة “فاو” التابعة للأمم المتحدة انتشار السمنة، وسوء التغذية وفقر الدم بين المصريين، لاعتمادهم على تحقيق الإشباع عند تناول الوجبات، باستهلاك المزيد من خبز القمح، الذي يوفر 45% من البروتين وثلث السعرات الحرارية، اللازمة للفرد يومياً، وتبين الدراسة أنّ 45.4% من المصريين، ليس بمقدورهم تحمل تكاليف نظام غذائي كاف، ولا يقدر 84.8% على تحمل تكلفة نظام غذائي صحي.
وإذا توفرت للمواطن وجبة إفطار بسيطة، فلن يتمكن أحد من الحصول على وجبة غداء، ولو طبق من “الكشري المصري”، الذي ارتفع سعره بنحو 100%، خلال الأسابيع الماضية، تبلغ قيمة طبق الكشري الشعبي، للفرد الواحد ما بين 20 و25 جنيها، مع غلاء أسعار الأرز إلى 11.5 جنيهاً، والمكرونة إلى 18 جنيهاً للكيلو في المتوسط.
إصرار حكومي على زيادة الأعباء
تنكر الحكومة الواقع المؤلم، وتصر على وضع تدابير تزيد الأمر سوءا، فقد أعلنت الحكومة مؤخراً، عن اعتزامها رفع أسعار الخبز والوقود، خلال الفترة القليلة المقبلة.
وبدلاً من أن تعدل الحكومة ميزانية الصرف ببذخ، على مشروعات لا طائل من ورائها، تعتمد على المزيد من القروض ذات الفائدة المرتفعة، واستيراد معظم مكوناتها من الخارج، والاستدانة من البنوك المحلية.
وتوعّد، رئيس وزراء الانقلاب المصري، مصطفى مدبولي، مؤخراً، بأن الحكومة، ستقوم بتحميل أعباء الزيادة التي شهدتها الأسواق العالمية، في أسعار السلع الاستراتيجية وبخاصة البترول والقمح على المواطنين. جاءت كلمات رئيس الوزراء ومن قبله رأس النظام، كالصاعقة، وسط موجة غلاء مستمرة ومتصاعدة، منذ نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، نتجت عن زيادة الحكومة، للوقود والكهرباء والمياه في يوليو/ تموز الماضي.
وكشف وزير التموين والتجارة الداخلية المصري علي المصيلحي، يوم الثلاثاء الماضي، أنّ عدد الأفراد المستحقين لدعم الخبز يبلغ 25 مليون مواطن تقريباً، من أصل 70.5 مليوناً مسجلين في منظومة الدعم، وموزعين على ما يقرب من 22.5 مليون بطاقة تموينية، في البلد الذي يتجاوز عدد سكانه 100 مليون نسمة. ولمّح المصيلحي إلى استبعاد أكثر من 45 مليون مواطن من منظومة دعم الخبز، قائلاً، في تصريحات صحافية: “كلفة رغيف الخبز، الذي يُباع بـ5 قروش (الجنيه = 100 قرش) على بطاقات الدعم التموينية، بلغت 65 قرشاً وفقاً لآخر حساب لكلفة الخبز في العام الماضي؛ أي من دون احتساب الزيادات الأخيرة في أسعار القمح العالمية”.
وتصاعدت مع حالة التضخم العالمي التي تشهدها الأسواق الدولية، مع ارتفاع أسعار البترول وقيمة الشحن، والسلع الاستراتيجية التي تستوردها مصر من الخارج، بنسب تصل إلى 90%، خصوصاً مكونات وجبات الإفطار كالزيوت التي زادت عام 2021، بنسبة 65.8% والفول 25% والقمح 20%، والسكر 37.5% والقهوة 56%، والحليب 16.9%.
وتشير أسعار السلع وفقاً لبيانات منظمة “فاو”، في يناير/كانون الثاني 2022، إلى استمرار تزايد الأسعار، بسبب التطورات المناخية، في مناطق زراعية كبرى في العالم، بالإضافة إلى انتشار وباء كوفيد 19، والتطورات الجيوسياسية، بين روسيا والغرب، وأزمات توريد السلع والشحن بين دول آسيا وأنحاء العالم.
ويتفق البنك الدولي في دراساته الأخيرة، مع رؤية “فاو” حيث يتوقع زيادة معدلات الفقر، في دول الأسواق الناشئة مثل مصر، بسبب تراكم الديون وعدم قدرتها على توفير السيولة اللازمة لتمويل خطط شراء السلع الاستراتيجية، التي زادت بنسبة 28% عام 2021، وزادت معها أسعار اللحوم والالبان بنحو 10% والزيوت بنسبة 38%، مع زيادة الفائدة على الدولار والعملات الرئيسة في الأسواق الدولية.
فشل برامج التكافل
وحول دور برامج “تكافل وكرامة” التي تؤكد الحكومة أنها أنفقت نحو 700 مليار جنيه على بنودها خلال السنوات القليلة الماضية، يشير خبراء اقتصاد إلى أن تلك الأموال، لا تتوافر فيها الشفافية الكافية في الصرف، للحكم على أثرها، خصوصاً أنّ أغلبها يوجه للإنفاق على مشروعات إدخال المرافق بالقرى، التي يتحكم في إدارتها مؤسسات أمنية سيادية، ولا تخضع للرقابة الشعبية في ظل غياب المجالس المحلية، ويوجهها بعض البرلمانيين الذين يأتون عبر تلك الأجهزة. وحسب البيانات الرسمية، جزء من المبالغ ينفق على دعم رغيف الخبز، وبعض السلع البسيطة التي لا تكفي إطعام أسرة معدومة لعدة أيام.
ترغب الحكومة في أن ينمو الاقتصاد بنسبة 7%، العام المالي القادم 2022ـ 2023، بينما البنك الدولي ومؤسسات مالية دولية تؤكد ثباته عند 5.5%، كحد أقصى، مع استمرار حالة ارتفاع الأسعار والتضخم، حتى نهاية العام المالي 2023ـ 2024.
ويعكس الواقع، صعوبة المآل الذي يحيط بالأغلبية الساحقة من المصريين الفقراء، والطبقة الوسطى المعلقة في الهواء، فزيارة واحدة للأسواق الشعبية أو المحال التجارية (السوبرماركت) تكشف الفارق الشاسع بين أسعار السلع، التي تعلنها الحكومة، في تقارير أسعار المستهلكين وحالة التضخم، وتلك التي يتعامل بها الجمهور. فالأسعار تزداد، كلما اقتربنا من شهر رمضان، وقد قرر التجار، ترحيل الأعباء التي تحملوها على أسعار بعض السلع منذ نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، ليشرعوا في تنفيذها، خلال الأسبوع المقبل، مع استعداد الأسر لتخزين سلع الشهر الكريم.